مضت بعدها أيام رتيبة بالقصر ..يظل الضيوف فيها يتسامرون طيلة الليل ويخرجون للتنزه نهارا..لم أستطع إلزام إيميلي بالدراسة فقد كانت مهووسة بالجلوس رفقة الضيوف ومرافقتهم حيثما يذهبون..ولذلك كنت أقضي يومي بين قراءة الكتب ..ومراقبة السيدة أميرة...ورفيقتها.
حاولت استطلاع نوع العلاقة التي تربطهما...على الرغم من وضوح القرب والامتزاج بينهما .لا سيما عندما تكونان بمفردهما.. حاولت اقناع نفسي أنها قد تكون مجرد صداقة رغم علمي أنهما تقضيان الليل في نفس الغرفة ..وعلى الأغلب على نفس الفراش، وظللت عاكفة على مراقبتهما من بعيد، على أمل أن لا أرى شيئا أخر...هذا الشيئ الآخر الذي رأيته جليا ذات مساء ..خلت أن الجميع قد خرج للتنزه كالعادة، فقررت أن أتنشق بعض الهواء، أخدت أتجول بين أشجار الحديقة الشاسعة. ...لتستوقفني همسات خفيفة ..انفطر قلبي للمنظر المهيب..كانت تبدو من بعيد خلف شجرة البلوط الكبيرة تحتضنها ..بل كانت تعتصرها كما اعتصرتني تلك الليلة...وكانتا تذوبان في قبلة طويلة لم أخل أنها ستنتهي.
ركضت بسرعة لغرفتي...كنت ارتعش وقلبي ينبض بشدة ...ياإلهي لمذا تأبى الدموع أن تنزل من عيوني..أحسست أني سأنفجر ..هذا كثير على قلبي الصغير...لمذا تقسو علي الحياة بهذا الشكل؟.
لم أخرج من غرفتي بعدها ..تحاشيت الالتقاء بهما،..ايميلي لم تكن تدرس في كل الأحوال..لذلك فلا داع لأن أنغص على نفسي.
لكن الوضع لم يدم فقد جاءت المربية لتخبرني أن السيدة تطلب رؤيتي...غيرت ملابسي ونزلت..كانت تجلس في الحديقة بكل شموخ..تحتسي فنجانا من القهوة ..رمت سيجارتها لتشعل أخرى قائلة...الساحرة الصغيرة لمذا تختفين طيلة الوقت؟
- لست مختفية..لكني لا أرى لوجودي ضرورة بينكم.
- لمذا هل أزعجك ضيوفي؟
لم أجب..أردفت ساخرة ...اوووو الساحرة الصغيرة تعجز عن الرد ..وأخيرا أنت بكماء الآن.
صمت قليلا ثم أجبتها..على الأرجح ..سأعود للتدريس بدار الرعاية......أتمنى أن تبدأو بالبحث عن مدرسة جديدة لأيمي.
- ماهذا الهراء...لمذا تعودين للدار...من قال أني سأسمح بهذا....كيف لك أن تتركيني.
-آسفة انا ..فقط...انا ..لم أعد باستطاعتي ان اتحمل..
-تتحملي !...اووف فجر لقد خيبتي ظني ...لطالما رايتك مختلفة عن الجميع...قلبك النظيف ..وروحك الراقية....لقد خلت أنك الوحيدة التي لن تتخلى عني...طيلة هذه الفترة كنت أفكر..وددت التأكد من قلبي...انت تعرفين كم انا منجدبة اليك ..حسنا ...انا لست منجدبة فحسب... فجر ..انا .. احبك.
-حب ...!!....دام صمت طويل بيننا لأردف لكن .. نسرين؟
-ماذا عن نسرين؟ هل كنت تعتقدين أننا ..؟ هاهاها هل جننت نسرين مجرد صديقة هي شريكتي بالعمل فقط.
توقف عقلي برهة عن التفكير...لم أعد اعي شيئا.. تلك الضحكة الساخرة تربك ثقتي بعقلي.
أضفت لكني رأيتكما في الحديقة...كنتما..... تتبادلان القبل.
- كلا فجر هذا مستحيل ..لم يحدث شيئ كهذا أنا ونسرين لا يجمعنا شيئ غير الصداقة...أنا لم أقبلها ..لابد أنك تتوهمين.
نظراتها وأسلوبها الجدي شوش تفكيري ..أي وهم هذا الذي أراه جليا مثل ضوء الشمس.
- انت تحبينني فجر ..أليس كذلك ..لطالما خلت أن روحك تلامس روحي..أنا أشعر بذلك.
أطرقت طويلا فذلك الفرق الاجتماعي الشاسع بيننا، وغيرتي العمياء من نسرين حجرت الكلمات في حلقي ..كنت أصرخ في داخلي نعم أعشقك أميرة ..لكن لساني يأبى النطق...الخائن تخلى عني كصديق غدار انكشف معدنه عند الحاجة.
حاولت استجماع شجاعتي..لتصرخ ايميلي. آآآنسة فجر..آنستي لقد وصلك بريد هام هيا بسرعة ..سحبتني من يدي لأرافقها لداخل القصر..تاركة أميرة وسط سحابة من دخان السجائر وغيمة من الأفكار.
كانت الرسالة من زوجة خالي ..تستحلفني فيها بكل عزيز أن أزورها لأمر هام فهي على فراش الموت....لابد أنها ستطلب السماح..
عجيب أمر بعض البشر يتفننون في أذية الناس وقهرهم، حتى إذا قاربتهم المنية سارعوا لطلب السماح، أهكذا يبتغي المرأ الجنة؟...لابأس سأكون أحسن منها وسأذهب لأرى ماتريد..وهي فرصة لابتعد عن أجواء القصر و ترتيب أفكاري من جديد.
استأذنت من أميرة لأغيب يوم أو يومين..أعطتني موافقتها على مضض..قائلة أتمنى أنك لا تنوين الهروب صغيرتي الساحرة..أرجو أن تنهي الأمر بسرعة وتعودي لنتحدث.
- حسنا سأفعل..لن أتأخر.
حملت بعض المستلزمات التي أحتاجها لإقامتي..سأمكث ليلة في الفندق ..لن أتمكن من الذهاب والعودة في نفس اليوم فالمدينة بعيدة..استقليت القطار ....اتخذت مجلسا معاكسا لخط للسير ..كهاربة من أفكاري ..أرى الماضي يبتعد وأسير بظهري نحو المجهول.
وضعت حقيبتي بالفندق، ثم ذهبت لبيت خالي، كم كان القصر يبدو أكبر عندما كنت صغيرة..لقد تغير كل شيئ..الأثاث مهترئ ..آثار الرطوبة والوسخ تملأ الجدران..السكون يغلب على المكان كمقبرة منسية..كانت هناك طريحة الفراش..أصبحت عجوز ضعيفة الآن، تأملت تقاسيم وجهها..لقد اختلف كثيرا ..لكن لازالت آثار الضغينة والبغض بادية عليه...لمحت عروق يديها البارزة..لطالما صفعتني هته الأيادي الجائرة....الآن خارت قواها بعد أن أهلكها الزمن..فقد انتحر ابنها الوحيد بعد أن هشمت المخدرات عقله وبدد كل ما ترك والده في المقامرة..وتشتت بناتها الثلاث في ضروب لا يعلمها إلا الله..
قالت بصوت ضعيف وهي تبكي...أو ربما تفتعل البكاء...فجر..لقد ظلمتك مرتين...لقد أصابتني لعنتك الأبدية..أرجو أن أنال عفوك يا ابنتي.
ابنتي...وفجر !!! كانت أول مرة اسمع منها هاتين الكلمتين ..لطالما كان اسمي البنت..تلك الفتاة...اللقيطة أحيانا.. أي شيئ ماعدا اسمي..سليطة اللسان أصبحت تجاملني...لم أرد
أردفت، لقد خالفت وصية خالك إذ ائتمنني عليك ...ليس هذا فحسب... فمنذ سنوات طويلة تلقيت رسالة من عمك بفرنسا..لقد علم بوفاة أخيه لكن تعذر عليه الحضور...طلب حضانتك إذ لا أولاد لذيه....أخبرته أنك...متي بدار الرعاية في حادثة التفوئيد...رسالته على الطاولة لازلت محتفظة بها ..أرجو أن تسامحيني..اطلب عفوك يا ابنتي.
أخذت الرسالة...وسرت نحو الخارج..توقفت بالباب استدرت إليها وقلت أمنحك عفوي الكامل بدون اي شرط...لقد سامحتك.
مكثت ليلتي بالفندق، لم أتأسف على ما ضاع مني، تلك العجوز وإن كنت أجزم أن نيران جهنم غير كافية لتعذيبها ..إلا أني منحتها عفوي ..لأن هذا قدري..وأنا قوية كفاية لتقبله...كنت سعيدة فحسب أن أصبح لي قريب، أستطيع مراسلته ومعرفة كل شيئ عن والداي.
عدت إلى القصر في اليوم التالي..وصلت مساء لأجد الضيوف يحزمون أمتعتهم بالسيارة..سيغادرون أخيرا.. كانت هناك تقف بشموخها المعتاد ..ونصف ابتسامتها المعتادة..على الارجح تودعهم ، إذن فلن تغادر معهم.
تسللت من الباب الخلفي ..لا أريد إزعاج عيني بتلك الوجوه البغيضة، استلقيت على سريري لأسمع طرقا خفيفا على الباب.
دخلت إثره كتلة الحب!..كمية من الجمال تقترب مني بهدوء..
ساحرتي الصغيرة لقد اشتقت إليك. قالت ذلك وهي تلف ذراعيها حولي ..لتبدأ نوبة من العشق على ذلك السرير.
استيقظت صباحا لأجدها ممدة بجانبي، تذكرت ما حدث ليلة أمس اعترافي بعشقي لها، الجنون الذي مارسناه، والذي مازالت آثاره على جسدي..تساءلت مالذي يشدني إليها بهذا الشكل..ظللت أتأمل تفاصيلها لبرهة، خصلات شعرها القصير المبعثرة، وجهها الصغير، أنفها المرتفع، عظام رقبتها البارزة، ..لونها الأسمر..لطالما خلت أنها بطعم الشوكولا ، فتحت عينيها ..حبيبتي تعالي إلى حضني، دميتي الصغيرة، كم أنا مسرورة أننا معا..سنكون عائلة صغيرة وهادئة أنا وأنت وأيمي سنعيش بسعادة ولن يعكر صفونا شيئ..لطالما علمت أن شيئا جميلا سيقلب حياتي لمسرة دائمة...
...يتبع
![](https://img.wattpad.com/cover/243637310-288-k131882.jpg)