بعد فترة من اقامتي في الدار انتشر مرض التيفوئيد بين الأطفال المقيمين ..وتوفي العديد منهم .. على الارجح مياه الحنفية الملوثة هي السبب...عموما لم يكن شيئا نظيفا في تلك الدار.... أصيبت هناء بحمى شديدة ألزمتها الفراش. ونقلوني للمبيت في غرفة أخرى ..لكني كنت اتسلل طيلة اليوم لاجلس عند رأسها ..لم يكن يهمني ان انتقلت العدوى إلي ...ظللت أدعو الله ألا افقدها ..لست مستعدة لخسارة أخرى ..فهي كل فرحتي في هذه الحياة.
وذات صباح كنت ذاهبة إليها بعد الإفطار كعادتي ..لكن الحركة بغرفتها كانت غير اعتيادية، جمع غفير محشود هناك....كان طبيب الدار خارجا من الغرفة رفقة ممرضاته وهو يصرخ في وجه المديرة... ..أنا لن اتحمل مسؤولية شيئ ..طلبت نقلها إلى المستشفى لكنكم أصريتم على التكتم على الأمر..تحملوا نتائج وفاتها..تبعته المديرة وأتباعها..لتنفرج لي عن رؤية..جثة هناء..مغطاة بلحاف السرير...
كان ذلك آخر ما رأت عيناي. ..أغمي علي ... قلبي لم يستوعب الفاجعة...أيام بئيسة مرت علي بعد وفاة هناء.. وأحسست باليتم لأول مرة....مرير فقدان الأحبة، لكن من لطف الله بنا أن رزقنا نعمة النسيان، لتطفئ نيران الحزن المتأججة في صدورنا.
بعد وفاة هناء والعديد من البنات الأخريات ..وانتشار فضيحة التستر على حقيقة مرضهن...طردت المديرة اخيرا.. وتحسنت الأوضاع بعض الشيئ..أحسن ما في الأمر أن أحضروا لنا معلمين جدد... تلقيت تعليما جيدا ولتفوقي البارز عينت بعد تخرجي كمدرسة للبنات بنفس الدار .
لكن وكأغلب البنات قررت المغادرة مع اول فرصة عمل لي ..أرشدني إليها الأخ كريم..زميلي بالتدريس القائم على العلوم الدينية و النصح والإرشاد..كان شابا ملتحيا شديد الإلتزام..لكنه كان عطوفا وخدوما لكل البنات بالدار..كان عرضه أن اصبح معلمة خاصة لإبنة أحد الأثرياء في مدينة مجاورة....وبكل ثقة ..قبلت العرض.. وأخيرا سأستقل بحياتي .أنا الآن في الرابعة وعشرين من العمر...سأنطلق وأرى العالم، أشخاص جدد..عمل جديد وحياة جديدة.
...يتبع