الفصل العاشر: هو إبنُه

8 2 0
                                    

تكاد سيارة السنتافيا الرمادية لاترى لشدة سرعتها، تسرع بأقصى مايحتمله محركها متجاوزة كل شئ بطريقها، يقودها الاربعيني قيادة محترف متمرس بينما رائف بجانبه غارق بأسئلته التي لم تجد جوابا، فقط صمت وملامح لم يستطع قرائتها هلعة خائفة مرتعبة متوترة مترددة حزينة كئيبة هي فقط ضمت كل رسم سلبي يمكن وضعه كملامح.

قطع طريق تستغرق نصف يوم بعدة سويعات وهاهو يترجل من السيارة يركض ناحية باب المشفى ورفيقه يجاريه حيث صرخ له بطابق ورقم غرفتها، الذي بات امامها بالفعل اخذ نفسا مهتزا قبل ان يدير المقبض وتلوح له صورتها الفارغة، وكأنها جثة ملقية على سرير تحاول المحاليل انعاشها دون جدوى، شاحبة اللون هزيلة البنية فاقدة للحياة باطنا وظاهرا قلب مكلوم ينبض وصدر بالكاد يرتفع للنفس ولاغيره يدل على حياة بهذا الجسد.

إقترب منها مرتاعا أثقل جسده لدرجة أبطئته يأكلها بعينيه قبل ان يصل يحاول إيجاد دليل يطمئنه على انه مخطئ وانها ليست هي، وما إن مس يدها الباردة حتى قطع اليقين قلبه هي ولكنها ليست هي، لايكاد يستوعب حالها كيف كانت واين اصبحت، بالأمس بين احضانه! كيف جرى الزمن هكذا وسرقها، لم يرى شيئا يثبت انها من سكنته عدا شعوره كان يقينا بالفعل انها جثتها.

نطق اسمها بخفوت لاأراديا، فقد زمام نفسه وراح يهز كتفها ويناديها حتى فتحت عينيها الذابلتين تطالعه ولم تأخذ وقتا للاستيعاب فقد انسابت دموع لسعت برد خديها ما إن لمحته، ورغم ضبابية رؤيتها إلا أنها دققت بتفاصيله شيب شعره البني حديث الحلاقة، عينيه شمسين ساطعتين بقسوة، بنية ضخمة وبطن بارز بخفة، ويدين عريضتين إنتشلتاها دون مقاومة منها وضمتاها لصدره لأعمق مايمكن به، إعتصرها بقوة وكأنه يحاول دمجها بأضلعه، دون ان تقوى الحراك جسدها شل ونفسها توقف، ولولا الالم الذي يسببه لها بغرسها في صدره لظنته كابوس أخر.

إحتل الغرفة كل من الإخوة الثلاثة ورائف والصدمة طغت على ملامحهم، تجمّد طلال مكانه وكأن مفاصله ربطت وحلقه أقتلع نسي كيف الكلام وكيف الحرّكة وضل يبحلق بوالدته التي بين أحضان رجل غريب لايعرفه، أما رائف فكان مستغرباً حد الهلع ماكان يتوقع هذا من صديقه العازب مُعتزل النساء وماصحى لنفسه إلا قائلاً «حسام!! مالذي تفعله!!».

إنتفض حسام وتركها دون رغبة والتفت حيث الوجوه المصدومة المستغربة والساخطة ومن بينها دقق بمن دق قلبه رعباً منه وشوقاً إليه، إبنه طلال، وقف تاركاً من هدم لها سدود دموعها فصارت شلالاً بأول هيجانه، ووقف يتأمل إبنه بنظرة لاتُقرأ خائف ومتردد ومشتاق يشعر بغرابة أفعاله وكأنه تجرّد من نفسه وطبعه فهاهو يقترب من نسخته ذات ال21ربيعاً يلمس خده بأصبعيه دون وعي أهذا إبنه؟ إبنه من صلبه الذي لم يره قط، ضربات قلبه غير أعتيادية وقد تفاجئ بيد إبنه التي صدت يده ليفيق لنفسه ويسمع صوته الضعيف والمرتجف «من أنت؟!».

تخبطت الاجابات بعقله وتاهت منه الكلمات من هو؟ هو ناكث الوعد وناغص الشرف هو محطم الرجاء ومخيب الأمل هو الفساد بحد ذاته هو والده، خيّم الصمت على الغرفة والصخب بعقول ساكنيها وأشدهم تلك التي لايرضى صراخها الخروج وكأنها تسحبه من عمق أخر طبقات الأرض فخرج نشيجاً متقطعاً كسر الصمت وأرجف ماكثي الغرفة، كاد يركض لها لولا سبق إبنه معطياً أياه الجمود وراحت عينيه تراقب كيف يعامل إبنه أمه كيف وضع يده على كتفها يستشفي ملامحها يسأل مابها فكأن صوته فتح بوابات حلقها أُطلقت شهقاتها المريرة وكأن البكاء جديد عليها وكأنه يخرج من غياهب روح محطمه، تتسابق شهقاتها بالخروج ومضى جسدها بإرتعاش شديد يخيف مشاهده وقد جعل حسام يصرخ «نحتاج طبيب أيها الطبيب إذهب يارائف أسرع نادي الطبيب».

بالكاد تحرك رائف ليدخل الطبيب مفسحين له المجال، بسرعة ومهارة متمرس حقنها بمهدئ لتنطفئ تدريجياً وعيونها معلقة به بحلمها الجميل الذي كسّر نفسه وتحوّل من حلم لأكبر المخاوف، فأنّى لك أيها القدر!

خرجوا جميعاً إنصياعاً لأمر الطبيب الذي أخذ بفحصها وتثبيت ماأخلّته إرتجافاتها من إبر لمحاليل، الجو مشحون على أكفه، وبعد ملاحظة رائف حركة قبضة طلال والتي تدل على صراع يُضرم بالداخل، أخذ صديقه الشارد بوجه إبنه من ساعده جانباً وقال محاولا كبت غضبه بالضغط على أسنانه «ماذا فعلت واللعنة ماذا حصل لك إنها أمه ياتافه أجننت أم مسست، إشرح لي مايحدث والأن».

مسح على شعره الخشن وحك مقدمته كحركة لاأرادية بحال الضياع، وترك من كان يحدثه وأتجه نحو المخرج فلحقه وبعد وصولهما للحديقة أمسكه رائف من كتفه ودفعه على الحائط مثبتاً اياه بمرفقه قائلاً بنبرة هجومية تدل على فيض كيل صاحبها «ماذا يحدث».

خارت قوى قدميه وتداعى للأسفل يسند ظهره على الحائط متنهداً بغصة وقائلاً بحيرة «حدث الكثير الكثير جداً كيف حصل هذا؟ أتعلم! مايحدث بمثابة خروج ميت من قبره ليكدّر عيشة قاتله عيشتي انا».

أرخى رائف جلسته غير قادر على تهدئة اعصابه فمابال صديقه وقال بقلة صبر «كف عن الشعر اللعنة عليك وانطق مالذي فعلته بالداخل ماذا تقصد بابني ماذا تقصد بكل مافعلته».

ومجدداً مسح على شعره قائلاً بين تنهده «لست أنا ولم أقصد شيئاً مما قلته وفعلته فقدت السيطرة على نفسي هذا جزاء من يكبت ينفجر وتتحرر نفسه من قيودها فتعذبه».

ليصرخ عليه رائف «صبرك يارب؛ انطق ياسافل اشرح ماذا فعلت ماذا سأقول للولد لقد إحتضنت أمه أمام ناظريه أتستوعب مافعلته؟».

ليرد عليه بعيون شاردة ونبرة تحمل هدوء مكلوم «من إحتضنتها جريمتي وإبنها خطيئتي».

بدأت الصورة تتضح بعقل طلال ولكنه سرعان ما أنكرها مستفهماً «ماذا تقصد؟».

نظر لعينيه بخواء قائلاً «طلال إبني من صلبي وأمه كانت يوماً عشيقتي».

اجتاحته صدمة بانت على ملامحه ليرد بذهول متفاجئ «إبنك؟ عشيقتك؟ متى؟ وأين انا من كل هذا كيف حدث ألست الرجل الذي باع حياته للتجارة؟!!».

وجه نظره للأعلى وكل شئ يعاد بذهنه الماضي الذي هرب منه سنوات هاهو يلقي القبض عليه وبعد صمت لم يطل قال «ماجعل التاجر تاجراً هروبه من ماضيه القاسي، حاولت نسيانه بكل الطرق ولم أفلح لو لم أهرب وعشت معه لما ساء الحال هكذا، ياليتني...فيما تفيد ياليتني بعد الندم؟ بلاشئ».

وقبل أن يستوعب المتلقي ماألقي عليه خرق مسامعهما صراخ عال جداً صراخ رجل صراخ طلال...

يتبع

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Feb 20, 2022 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

بينَ شفقٍ وقدرِهاحيث تعيش القصص. اكتشف الآن