تغرّد العصافير بِصوتها الرنان عازفةً أعذب مقطوعة تتراقص عليها أوراق الأشجار و تتمايل فرحاً لسماعها الأزهار لتنثر عبق رائحتها في الأنحاء، و ينحني العشب الأخضر بعد رقع خطوات الأميرين في ثباتٍ ..
قال كريس مقوّساً شفتيه بإحباط: يبدو أن الجميع نسى يوم ميلادي !
أردف كارل و على محياه إبتسامة مضمرة: و لما تظن هذا؟
واصل مشيه قاصداً دخول القصر فَتبعه كريس مجيباً: أليس من المفترض أن يجهزوا للحفل بينما نحن في المحكمة؟
دُهش كارل من تفكيره و قال يغيّر دفة الحديث: بِذكر المحكمة، اعترف يا كريس هل أنت تُشفق على داي؟
نفي كريس برأسه الصغير و قال في إحراج: كلاّ يا عمي
أصرّ كارل يسأله في شك: أحقاً يا كريس !
أخفض كريس ناظريه و قال بصوتٍ طفولي خجول: قليلاً فقط
حملق فيه كارل و قد تلوّنت ملامح وجهه البريئة بطيفٍ من الحمرة فَبعثر له شعره حتى غطّت غرته على جبينه و قال يخفف عنه إحراجه: أنا أيضا أشفق على حاله، لو أنه تمسّك بِقيمه و أخلاقه لما انزلق إلى حضيض القاع لكنه إختار حياة التنغيص و قد نال الجزاء
أومأ كريس برأسه مُحايذاً كارل في مشيه و ما إن دخلا القصر حتى تفاجئ كريس بِإطلالة والده يغني في حبور و على رأسه قبعة عيد ميلاد ملوّنة و اندفع خلفه فينيس و روز و آن مصدرين ضجّة بأصواتٍ مزعجة خارجة عن لحن الأغنية و كل منهم يتلو عبارات التهنئة لِكريس في آنٍ واحد، انحنى مارك يعايد ابنه متأثراً و قد ألبسه قبعته فَتراكمت دموع الفرح في عيني كريس و ارتمى في حضن والده الذي رفعه في خفّة إلى صالة الجلوس هامساً بأذنه: لديك مفاجأة في إنتظارك
قبّل الصغير والده و فور ما رأى جوليا جالسةً على الأريكة أفلتَ من يديه و أخد يركض بإتجاهها لِتطوقه بذراعيها في حنان و طبعت قبلة على جبينه قائلة له بِشوق عارم: أتمنى لك عاماً سعيداً يا أخي .. اشتقت لك كثيراً
ابتعد عنها كريس بعد عناقٍ طويل و أدار بصره نحو رين الجالس في هدوء: عمي رين !
ابتسم رين بلطف مردفاً: كل عام و أنت بخير أيها الصغير
بادله كريس الإبتسامة و علّق بارزاً إصبعي يديه: لقد كبرت و صار عمري إثنان
ضحك كلاهما و أردف رين ممازحاً: لكنك لا تزال صغيراً حتى ينمو لك شاربٌ مثل أبيك
همهم كريس و قال في صوت خفيض: العديد من الناضجين ليس لهم شارب، هذا ليس عدلاً !
و انتفض الصغير في فرحٍ عندما ناداه والده لإطفاء الشموع فَتجمّعوا حول كريس و هو ينفخ لِيطفئها متلهفاً و يلفظ بأمنيته سراً ثم قطّع الكعكة بمساعدتهم و أخد يفتح هداياه بكل شغف
بينما همس مارك قلقاً: مابك تبدو منزعجاً؟
أجابه كارل في همسٍ كذلك و تحولت ملامح وجهه إلى الأسف و الندم: لا عليك، أنظر إلى كريس يبدو سعيداً بِوجودها في القصر
زمّ مارك شفتيه و قال بصوته الخفيض: أتزال تكنّ لها المشاعر؟ سوف يعقدان قرانهما قريباً !
زفر كارل بِضيق و اندفع خارجاً بخطوات واسعة ممّا أربك مارك الذي ألقى نظرة على الحاضرين ليتأكد أنه لم يلفِت إنتباههم و جلس بِالقرب من جوليا و كريس لِيشاركهم الحديث حيث أن فينيس و رين مندمجين في حديث يخصُ مجال عملهما لِكون رين ضابط في الشرطة الفيدرالية أما روز و آن تجلسان مقابلاتٍ لهم على الجانب الآخر
قالت روز و هي تنظر إلى فينيس الذي يتكلّم و يُشير بِيديه بإنفعال: يبدو أنه موضوع شيّق !
آن: أجل، مارك أيضاً مُنسجم معهم !
ظلّت روز تُحدق بِفينيس حتى رمقها بِنظرة خاطفة و أدار بصره في ربكةٍ جعلته متلعثماً في حديثه ..
أردفت آن في تساؤل: صحيح أين هو كارل؟ أليس من المفترض أن يجالسهم فقد كانوا بالأمس عائلته، ياله من ناكرٍ للجَميل !!
استرسلت روز تقول في حيرة: لقد كان هنا !
زفرت آن: طباعهُ لن تتغير أبداً
ثم قالت مداعبةً: جوليا تعالي بِجانبنا بدلاً من سماع أحاديثهم المملة
جارتها روز قائلةً: أراكِ تشتكين من صداع الرأس بعد قليل
قامت جوليا بإبتسامة هادئة تزيّن ثغرها لِتنضم إلى روز و آن، فَأقبلت آن تُعرّفها على أفراد العائلة في إستغراب إرتدته ملامحها حين سألت: أيُعقل أنك لا تعرفين أحدهم؟ ألم يخبرك كارل و لو مرة واحدة أن له عائلة و أقارب !
عضّت روز شفتيها و أردفت في إحراج: لا أظنه قد ذكر أحدنا على مسامعك !
أجابت جوليا: حقيقةً لم أسمعه يذكر إحداكنّ مطلقاً لكنه أخبرني ذات مرّة عن مارك و المُحزن أنه ليس كما وصفه لي !
علّقت آن في تحسّر: المحزن حقاً هو أنك استقبلتِ كارل في منزلكم و عاش مُلازماً لكم و لازلتِ تجهلين الكثير عنه
قطّبت جوليا جبينها بعدم فهم فتراجعت آن عن كلماتها مدركةً لِمغزى نظرات روز الثاقبة: لا تهتمي
أردفت روز بإبتسامة مرحة: متى حفل الزفاف؟
بادلتها جوليا الإبتسامة و ردّت على سؤالها: في إجازة نصف السنة، و إنه شرفٌ لي إن لبّيتم دعوتي بِحضوره
أومأت الإثنتان بالتأكيد و تابعن خوض الأحاديث في إنسجام حتى نهض رين بعد أن قرأ ساعة معصمه و قال متأوهاً: لقد تأخر الوقت هيا يا جوليا سنغادر قبل حلول الظلام
دعاهُ مارك للمبيت في القصر و كذلك أصرّت روز على بقاء جوليا لكن رين تحجّج بِعمله في إقليم ديسكورد فَسمحوا لهم بالمغادرة على ألا يقطعوا الزيارات فيما بينهم
خرج رين و جوليا و كذلك همهم فينيس قائلاً: أنا أيضاً سأعود إلى منزلي
مارك: أراك بالغد إذاً
خرج فينيس و قامت روز تلحقهُ فإستوقفهما مارك يقول في حزمٍ: أريحي نفسك يا روز، إنه يحفظ مخارج القصر أكثر منكِ
أردفت آن و قد زفرت في نفاذ صبر: من الضروري أن تتدخل أليس كذلك؟
أومأ مارك بإبتسامة متكلّفة: بالرغم من أن لا شيء يعنيك لكن يجب أن تعرفي أن لِهذا القصر قوانينه و لا مجال للرومانسية البائسة هنا
قالت روز بِصوت هادئ: لكنني كنت أقصد الذهاب إلى دورة المياه "يكرم القارئ"
صمت مارك و لملم ماء وجهه مُسرعاً يتجاوزها في إحراج فانفجرت آن ضاحكة و نقلت عدوى ضحكها إلى روز و كارل الذي دخل لتوّه
.
.
كارل/
كنت على علمٍ مسبق بِزيارة جوليا لنا إذ أن مارك إقترح علي فكرة دعوتها إلى الحفل و أيّدته عليها ظناً مني أنها ستكون فرصتي للإفصاح عن مشاعري تجاهِها و لِكثر لهفتي قرّرت إخبارها برغبتي في الزواج منها إلا أن مكالمتها الأخيرة التي لم تفُت مدتها عن عشر دقائق حطّمت قلبي المُفعم بِحبها منذ عامين فَقد أعلمتني حينها بِحضور رين معها و ذلك لأنهما مرتبطين، نزل الخبر على مسامعي كَنار جهنم أو أحرُ لهيباً فَأقفلتُ الهاتف و حاولت الحفاظ على رباطة جأشي و مسايرتهم قدر الإمكان؛ منذ أن دخلت برفقة كريس حتى قطّعت معه الكعكة و أنا أشعر بِثقل ذرات الهواء في المحيط فَاندفعت خارجاً أطلق العنان لقدماي إلى أن وصلت للحديقة تنفست الصعداء و زفرت في إسترخاء يتبعه إستلقاء على الكرسي الخشبي في هدوء حتى وافتني الخادمة بِقدح من الشاي احتسيته وحيداً أراقب غروب الشمس متحاشياً ضجيج العالم من حولي، شارد الذهن في مخططاتي القادمة لِأدير بظهري عمّا سلف و اصبُّ جلّ إنتباهي فيما سأصبح عليه غداً، فكرت و فكرت حتى سمعت أصواتً خافتة تعلو أكثر مع إقتراب أصحابها و اتضح لي أنهما جوليا و رين، على كلٍ لن تنتهي حياتي بِهذه العثرة بل قمت أحيّيهما بإحترام و بادلاني التحية و انصرفا أخيراً، ارتشفت ما تبقّى من الشاي و آويت إلى الداخل لِألمح فينيس يمشي مُحمرّ الوجه و يتمتم في غضب مُتجاهلاً نداءات مارك أما آن و روز فإنهما منخرطتان في نوبة ضحك جنونية، إجتاحتني رغبة جامحة في الضحك فَضحكتُ من أعماق قلبي بِقوة كادت أن تُمزق ثغري، زادت أصوات الضحك في القصر و تعالت من صدى الجدران فأستدرت ألقي نظرة إذ بِمارك و فينيس آتيان بإتجاهي و هما يدمعان من شدة الضحك، أخذتُ أجوب بِنظري بينهم و شعرت بالسخونة أثر الضحك المُستمر، ليس لدي أي سبب يستدعي الضحك لكنه يُريحني كما أن هناك العديد من الأمور التي تجلب الدمع و تُنبت الكئابة لكنها لا تريحني لذا أتجنبها و لا أطيل التفكير بها فَمالذي يُضاهي راحة بالي و سعادتي !!
هذا ما خطر علي عندما ارتميت على الأريكة لاهثاً بعد إستئناف نوبة الضحك، سعادتي هي الأهم لذا أستشعرها من أتفه الأشياء في نظرك و أتحلى بها لِإنجاز أعظم مما تقوم به أيها العبُوس .
- إنتهت بفضل الله .
أنت تقرأ
حــكــايـــا الجُـــدران
Random"مُقْعَدَةٌ بَيْنَ سَلَاسَةِ الّصَفَحَاتِ حَتَّى نَكَثْتُ مَا تَكَتَّمْتُهُ عَلَى سَطْرٍ مِنَ الْإِرْهَاقِ أَبْلَيْتُهُ بِمَشَاعِرِي لِأَمْضِي إِلَى الْأَمَامْ " . نبذة عن الرواية ؛ بطلنا شابٌٍّ صقله الزمن و ردمَ ملامحه ، ترك أهله و عرشه فاراً إلى ق...