زِيَارَة

1.4K 124 308
                                    















إكتسبت المنطقةُ المُحاذية لمحطة شيبويا شُهرتها كأحد أكثر الأماكن إزدحاماً و ضجيجاً في طوكيو، و مما لا شَك فيه أن بُقعة الإكتظاظ تلك، تستحوذُ على الكثير من الإهتمام، لكونها تَضُم التقاطع الأضخم و الأكثر تنظيماً، حيثُ يُعتبر منظرُ الأفواج المتلاحقة و هي تعبرهُ بتناسقٍ تام و دقةٍ في التوقيت، كأحد أبرز المعالم التي يتهافتُ الكثيرون لمشاهدتها خلال مرورهم بشيبويا.

على النقيض تماماً من قَلْب المدينة الحيوّي، يتميزُ الحّي الثالث الذي يبعُد عن مركز شيبويا مسافة محطتيّ قِطار، وقُرابة العشر دقائق، بالهدوء الفريد الذي يلفهُ و يُمْكِنُ إستشعاره فور النزول من قِطار الأنفاق. فلا وقع لخطواتٍ مسرعة تُجاهد لقَطع الشارع قبل إختفاء وميض الإشارة الضوئية، و لا أصواتُ الإعلانات الصاخبة التي تُبثُ على واجهة أغلب المباني الضخمة، لذلك تمركز فيه العديدُ ممن ينشدون الهرب من صخَب المدينة المُضني.

الحّي الثالث والذي يُعَدُّ منطقة سكنية حافظت على أصالتها رُغم تعاقب الأزمنة؛ ففي مكانٍ كـطوكيو، حيثُ تُعتبر المباني السكنية شاهقة الإرتفاع هي الخِيار السائد للعيش، تراصَّت البيوت التقليدية بشموخٍ في هذا الحّي، مُتمسكة بالتراث في وقتٍ تسارعت وتيرة تغيُره.

كان يوماً حاراً بشكلٍ إستثنائي، سطعت شمسهُ بكامل لهيبها في الفترة التي تسبقُ الظهيرة، و في ذلك الطريق الذي تقعُ البيوت التقليدية على جانبيه و يُخيم السكون عليه إلا من أزيز حشرة الصيف المُزعجة، إحتمت 'سورا' بالأسقف الخشبية الممتدة عن جُدران تلك المبانى التقليدية، و التي توفرُ الظِل بكرمٍ لمن يسيرُ بمحاذاتها. هي في طريق عودتها، ترتدي لِبَاس المدرسة الموحد، و تضعُ سماعات الأذن التي تستمع من خلالها لعزفِ فِرقتها و تُقيّمُ  أداءهم.

لم يخطر ببالها مُطلقاً و هي تصلُ للمنزل، بأنها ستجد شخصاً  مستلقٍ على عَتباتهِ، مسنداً ظهرهُ للباب، و يبدو مُستغرقاً في النوم للوهلة الأولى. إتسعت عيناها الرمادتين -و قد ميزتهُ على الفور- و أخذت تحملقُ به بغير تصديق، إلى الشعرُ القَمحي المنسدل على جانبّي وجهه، و الحُمرة الطفيفة التي إصطبغت بها وجنتاه، يُحرك شفتيه و كأنه يحاولُ التنفس بجهد، فساورتها الشكوك في أنه رُبما أصيب بضربة شمس و ليس في خَضم غفوته كما بدا لها.

-مايكي!

جثت أمامه، و إمتدت يدها لتُربت بلطف على وجنته. تنفست الصُعداء حين فتح عينيه الداكنتين على الفور لينظر إليها، و إرتسمت على ثغره الإبتسامة اللطيفة ذاتها التي تتذكره بها.

-سورا-تشي..مرحباً..لمَ نلتقِ منذُ زمن.

-يا إلهي!..أجل، لكن، هل أنت بخير؟ أتشعرُ بالإعياء؟

أغمض عينيه و هو يهزُ رأسه بالنفي، فأبعدت يدها و بقيت تُراقبه عن كَثب، رأت أثراً طفيفاً لخطوط داكنة تحت جفنيه، و تبدد قلقها حين دفع بنفسه للأعلى و أخذ يمدُ ذراعيه و يتثائبُ بصورة طبيعة كمن إستيقظ للتو من النوم.

سَمَاءٌ بِلَوْنِ الصَّيْفحيث تعيش القصص. اكتشف الآن