الفصل الرابع

7.4K 203 13
                                    

الفصل الرابع

ثرثرة بين جدران الماضي

نظرت غزل لليد الممدودة إليها بدعوة حانية فتوجهت لها لتقبلها بحنان ملهوف، من الغريب كيف أن يد والدها رغم ارتجافها ونحولها وكثرة التجعدات فيها تدخل إلى نفسها كم هائل من الشعور بالقوة، وكأنها تشعر انه لطالما يده الحبيبة ترتجف فهي ستكون بخير! قربها والدها منه وأجلسها بقربه ليحتضن أكتافها المرتعشة بيده فيحتويها بحنو، ومقارنة قاسية تدور بداخلها بين هذه الجلسة وجلسة أخرى جرت قبل أربع سنوات.. لم تدري ماذا جرى فيها... ماذا قالوا... سألوها الكثير... وهي مصابة بحالة من الخرس... لم تقل شيئا... لم تنطق بحرف... وكأنه كان لديها ما تقول! اكتفت بالسكوت فكان صمتها أحدّ من ألف سيف وسف! كل ما تعرفه أنها بعد أربعة أيام وجدت نفسها متزوجة من كرم!!
اليوم هي تعلم عمّ سيكون الاجتماع... تعرف البنود... وافقت عليها مسبقا.. راضية بإكراه... لا يجبرها أحد فكلّه يهون كرما لعيني هذا الأب الذي شاء قدره أن يضعه قاضيا لمرتين بين أولاده!
أحست بكف أبو كرم تتحسس بحنو رأسها المغطى بذلك الحجاب الأسود ثم وصع كفه الدافئة فوق وجهها المرهق ورفعه ليتفحص عينيها قائلا بعزم: كرم حكالي أنه حابب تستمروا بزواجكم وأنكم تناقشتوا بالموضوع (قست نظرات أبو كرم قليلا وهو يكمل) وأنه أنت مقتنعة وما عندك مانع صحيح هالحكي؟!!
لا إراديا عيونها بحثت عنه وارتجفت مقلتاها بخفة لم تفت أبو كرم عندما رأت قسوة نظراته المسلطة عليها لتقول بهمس لا يكاد يسمع: مزبوط
زفر أبو كرم الهواء بقوة مبعدا يده عنها ليقول بحزم واضح: بابا غزل هاي الأمور ما فيها تسرع فكري منيح وخدي وقتك والقرار اللي بتطلعي فيه احكيلي إياه وإلك علي اللي بدك إياه راح يصير!!!
غزل متأثرة بكلامه جالت بعينيها بالغرفة على الوجوه المترقبة.. عيونهم... عيونهم تطالبها بأن تتذكر ضعفه ومرضه.. تطالبها بأن تمنحه راحة البال المنشودة... أن لا تضعه بموقف يضطر فيه أن يكون بمواجهة قاسية مع ولده من جديد... أن يخسره مرة أخرى! نظرت لكرم مرة أخرى لتراه جالسا يركز مرفقيه على ساقيه المنفرجين متشابك الأصابع حبث ترقد ذقنه ويسلط نظراته السوداء الحادة عليها بتطلب لا يتزحزح!
نظرت لوالدها قائلة بابتسامة مغصوبة: أنا فعلا فكرت و موافقة
سألها بقسوة: متى فكرت؟
ارتبكت غزل لتجيبه متلعثمة: ههوة تتتواصل معععي مممن فترة وو تتناقششنا
سألها بحزم: ومقتنعة بالموضوع؟
أنزلت رأسها للأسفل تخفي ملامحها ذات الفتنة الملائكية عن نظرات مقهورة.. مذبوحة... مفتونة!
كرم فورة من المشاعر اجتاحته وهو يسمع إجابتها تخرج مكتومة تؤكد اقتناعها بعملية نحرها ليصلب ظهره بخيلاء وهو يمني نفسه بنصر قريب، لكن قبل أن يتشرب الفرحة كاملة شاهد نظرات والده تقسى أكثر وهو يسلطها عليه ليقول بصوت قاس يخفي بطياته توترا استطاع هو وحده أن يستشفه: وأنت؟
واجه والده بنظراته ليرد له سؤاله بسؤال آخر: أنا شو؟!
قال أبو كرم وصوته ينحدر بدرجة واحدة لم يشعر بها غيره: مقتنع؟
" هسة جاي تسأل؟" إجابة كانت فعلا على طرف لسانه ولكنه كتمها بداخله ليشدّ قبضته المكدومة وهو يجيب: يا حج صار عمري تلاتة وتلاتين سنة برأيك هاد العمر ما بخولني إني أكون مسؤول عن قراراتي!
تنهد أبو كرم ليسأل بخفوت مجروح: وبتقدر؟
فهمه كرم كما فهمه كل من بالغرفة فسكت كما سكت الجميع... محرجين متألمين لها وعليها ففتاة برقتها وجمالها وفتنتها التي لا تخطئها عين يصبح موضوع الارتباط بها قضية للنقاش و فكرة تحتاج التقبل في الوقت الذي ينهال عليها العديد من الراغبين بالزواج منها ممن لا يعلمون أنها فعلا متزوجة أو أنها فعلا فقدت ما يؤهلها! غريب كيف أنها بين ليلة سوداء وضحاها تحولت من بضاعة رائجة جدا إلى بضاعة بائرة... مستهلكة!
من دائرة أفكارها المغلقة والمنغلقة سمعت كلمة واحدة صدرت من كرم: نصيبي!
ليأتيها صوت أبوه: و راضي في؟
تعلم بأنه لا يقصد! تعلم بأنه لا يريد أن يعرضها لشعور المنبوذة مرة أخرى ولكن الإحساس بالجرح الذي ينزف بداخلها يأبى التوقف، أحيانا كثيرة تتمرد روحها عليها لتسأل " وما ذنبي" فيأتي ضميرها الذي لم يغفل سوى لمرة قاتلة ليسألها "وما ذنبه"!
تهرب كرم من الإجابة المباشرة فقال: هسة غزل فعلا مرتي وخلص ما في داعي نتناقش بموضوع منتهي
ناقضه والده: مش بس زواجكم اللي موضوعه منتهي كمان اللي صار زمان موضوعه منتهي يا إما هيك يا إما الطلاق أرحملها
هنا نظر لها والدها ليقول لها بحنو وحزم: أنا يا بنتي ما بحكيلو هيك برخص فيك أنا بدي إياه يكون مقتنع عشان لو جرحك بيوم بنص كلمة أحكيلو أنت وافقت وبرضاك! إذا كان انغصبت عليها يا كرم من أربع سنين فأنت هسة ماخدها وباختيارك! ما إلك حق تعاتب ولا تعترض ولا تجدد الجروح
نظر أبو كرم لابنه بإصرار بعد أن أشار بيده حوله على كل الموجودين ليقول بصوت جهوري واضح: اليوم ما في اشي بيجبرك توخد غزل... الكلمة اللي بتطلع منك هسة بتتحاسب عليها وأنا هسة بسألك قدام خالتك وأخوك الوحيدين اللي عارفين اللي صار وبشهدهم عليك عشان بس الله يوخد أمانته... أنت مقتنع انو غزل تضلها مرتك وعاسمك مع معرفتك انو هي مش بنت؟
قاسي! نعم هو يعلم كم كان قاسيا بكلمته تلك.. يعلم من نظرة عينيها الكسيرة و نظرت عينيه الجريحة يعلم من شهقة زوجته المجفلة وسعلة أحمد المتفاجئة... ولكن ما باليد حيلة فهو ليس غافلا عن توترهم وتهربهم لكن بأنانية أب يريد أن يحقق لكرم حلم لطالما تمناه ويشفي لغزل جرح لم يندمل وكما يقولون آخر العلاج هو الكي!!!
.................................................. ................................
تتقلب بفراشها وابتسامة بلهاء مرتسمة على محياها، أحداث اليوم تدور كلها بدماغها بكل تفاصيلها وما أحلى تفاصيلها، تضحك بتلاعب وتعترف أنها لا تذكر كل شيء بل أنها لا تعرف أي شيء حصل اليوم بعيدا عن أحمد!! تذكرت نظراته... هل كان بها شيء استشعرت وجوده أم أنها فقط تمني نفسها بما تريد؟ لا تعلم حقا لا تعلم! أرادت اليوم فعلا أن تبادر معه بأي شيء ولكن الحظ عاكسها بهذه العرجة اللئيمة وخطوط الكحل المرسومة على وجهها كله والتي اكتشفتها بعد ساعتين كاملتين عندما لمحت نفسها بالمرآة! وقتها لعنت حظها كلّه فلابد أن هذا هو سبب ضحكته المكتومة عندما كان يعالج لها كاحلها!
اشتاقت له جداً... خلال الأربع سنوات نادرا ما رأته فهو سافر بعد أسبوع من زواجه من دلال.. فترة قضت بعضها بالمستشفى والباقي منها معتكفة بين جدران غرفتها. كتمة نفس معتادة انتابتها وهي تتذكر تلك الأيام، لا تحب أن تتذكرها فلقد كانت أسوأ أيام حياتها.. بالواقع هي تذكرها بشكل ضبابي ولتكون واقعية... لم تشأ يوما أن تسلط الضوء عليه لترى من خلاله!
تذكر أنها كانت تنام عند بيت خالها بحجة مساعدتهم بالتحضيرات للزفاف الميمون بعد حفلة الحناء الحافلة... بالغت يومها بلبسها وزينتها عن تقصد.. شيء لم تفعله سابقا فهي بطبعها تميل للبساطة وعدم التكلف وهذا ما لم يتغير بها حتى الآن، هو فقط من يجعلها تخرج عن كل ما هي معتادة عليه! جمال دلال غير العادي واهتمامها البالغ بزينتها وهندامها يحفز فيها السير على خطاها فبالنهاية أحمد أحبها وتزوجها وفضلها عليها أليس كذلك؟!
تعتقد أنها يومها حققت مبتغاها فقد تأملها بتركيز مستعجب ليبتسم بطريقته الحانية وغمز لها بعينه بمشاكسة وقال: شو هالحلاوة هاي؟! وين كاينة مخبيتيها كلها عنا؟!
تبسمت ودفعة هائلة من الدماء الحارة تصول وتجول بجسدها الفتي فتتركز بالنهاية على وجهها المتنكر برداء النضج وعدد هائل من النجوم يحوم فوق رأسها ويعطل تفكيرها، ليأتي كرم وكالعادة ليعكنن مزاجها الوردي المتألق فيقاطعهم بأسلوبه المستفز لدرجة تثير فيها كل الغرائز الإجرامية لقتله ويقول: والله صدقوا إخوانا المصريين لما حكوا لبّس البوصة تبقة عروسة! (ويكمل بينما عيناه تتجهان لتلك الفتنة المتحركة بثوب وردي والقادمة من المطبخ بوجه خالي إلا من اثر ما بقي من كحل كان يزين عينيها) شوف شوف عنجد الحلو حلو ولو صاحي من النوم!
فيغتاظ منه أحمد ويقترب من غزل المحرجة جدا من كرم والتي كانت قد اقتربت منهم فيبعثر شعرها ويقول: يا زلمة ما أتقل دمك... قال بوصة قال... عليم الله لو إني شايفها هيك قبل ما أخطب دلال كان رحت هسة أطلبها من عمي أبو مجد!
وما أدراها انه كان يمزح؟! كيف لها أن تعلم أنه إنما كان يطبطب على برعم أنوثتها المحرج من كلام أخيه؟! وفي الوقت الذي كان هو راضيا بالابتسامة الكبيرة التي ارتسمت على ملامحها كانت هي تزداد إصرارا على المخطط الذي كانت أعدته مسبقا لتلك الليلة!! فكيف له أن يعلم!!!
.................................................. ................................





عيون لا تعرف النوم(الجزء الأول من سلسلة مغتربون في الحب) مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن