الفصل الثامن
بين شدّ وجذب
كانت غزل تجلس منكمشة وحيدة بجانب كرم في عتمة السيارة التي يقطع بها شوارع عمان المزدحمة جدا بالسيارات...
راقبت ازدحام الشوارع الذي يتزايد جدا جدا في أشهر الصيف بفعل الأفواج السياحية القادمة من دول عربية شقيقة والمغتربين الذين يعودون بهذه الأشهر لزيارة أهلهم...
كانت تستمع للهمهمات الحانقة اللاعنة لعدم احترام قواعد السير المفروضة الصادرة من ذلك الغول الجالس بجانبها خلف عجلة القيادة والتي كانت تتطور أحيانا كثيرة لشتائم نابية غضبا من سيارة تجاوزته أو عرقلت طريقه أو ببساطة لأن سيارته المسكينة علقت في زحمة السير!!
لم تشأ أن تغادر معه وحدهما قبل الآخرين، صحيح أنها كانت معه في منزل واحد طوال الأسبوع ولكن شعورها بأهلها معها بنفس البناية كان يعطيها شعورا بالطمأنينة والأمان عداك عن انعدام رؤيته تقريبا طوال تلك الأيام.
لم يقبل عندما أصرّ زوج عمتهم عليهم البقاء واكمال السهرة عندهم فهم على حسب قوله أهل ولا داعي لمغادرتهم مع بقية الضيوف، لكن كرم اعتذر منه قائلا له أنه متعب جدا وكان ينتظر يوم الجمعة بفارغ الصبر ليرتاح وينام.
خجلت جدا عندما ناداها للمغادرة وفقدت دقة أو دقتين وقتها رغم سذاجة الموقف ولكنها رغم الرعب الذي أصابها مما قد يفعله عندما ينفرد بها تماما الا أنها شعرت ولأول مرة أنها زوجته!!
رأت السيارة تتجه لشارع "الشميساني" وتدخل في زحمة المشاة فيه من كثرة رواده القاصدين مطاعمه ومقاهيه التي لكثرة امتلائها بالصيف تصف الكراسي والطاولات على الأرصفة بعيدا عن الأجواء الخانقة بداخلها
نظرت غزل باستغراب لكرم عندما أوقف سيارته ليرد لها نظرتها قائلا: ميت جوع خلينا نتعشا وبعدين بنروح عالبيت
ارتبكت عيون غزل عند ذكره لكلمة "البيت" بهذه الأريحية ليكون رمزا يعنيهم معا بصورة حميمة غير موجودة بالواقع وفتحت الباب بالمقابل ونزلت من السيارة دون جدال...
*
*
كانت غزل تتساءل بينها وبين نفسها بعد أن أنهت عشاءها الذي أكلت منه لقيمات تحت تظراته الحادة ان كان كرم حقا مفصوم!!
بالكاد تعرفت عليه.. فلكم كان مراعيا لها بهذه الساعة وكأنه ليس ذات الكرم الذي كان منذ اسبوع... أصرّ أن يطلب لها وجبة طعام رغم رفضها للفكرة وطلب لها كأس خليط الموز بالحليب الذي كانت تحبه مذ كانت طفلة... وكأن الزمن لم يتغير والنفوس لم ... تتحطم!! أكثر ما أحبته أنّه لم ينغص عليها بأي كلمة تضايقها الا ...
تذكرت منذ نصف ساعة عندما أتى الجرسون " المضيف" ليسأل ان كانوا محتاجين شيئا فطلبت منه بارتباك أن يحضر لها ماء... تذكر كيف حدجها بحدة ليهمس لها ما ان غادر ليحضر لها طلبها " لما بدك اشي بتحكيلي وأنا بطلبلك... مش اجر كرسي أنا على هالطاولة!!"
بهتت فعليا وقتها غزل فكيف لرجل نصف أميريكي وعاش أغلب سني عمره هناك أن يكون بهذه العقلية!! ولأول مرة تجد نفسها تتساءل عن طبيعة حياته هناك!!
راقبها كرم تتحرك باتجاه الحمامات لتغسل يديها بينما يقبض كفه بقوة ويضعها بفمه فيعضها بوحشية وكأنه يفرغ كل شحناته السلبية فيها!! طوال الوقت استجلب برودة كل الدماء الغربية الممزوجة بدماءه العربية ليقدر أن يتعامل معها بلطف وتمدن!!
ذكّر نفسه بدل المرة ألف بكلام أحمد " اسأل بس ما تتهم... افهم مش تحاسب... حسسها بشوية أمان وحاول تعرف كل اشي بس بأسلوب منيح...!!"
وها هو يحاول أن ينفذ كلامه لعلّه يصل معها لأي نتيجة... فصمتها لن يرضيه ولن يريحه ولن يقبل سوى بالاسم بديلا... ولكن بهدوء... ذكر نفسه والحقيقة أن ثوب التمدن معها ضيقا عليه.... أجبر نفسه على ارتداءه هنا حتى لا تفلت منه زمام الأمور كما حدث معه في المرة الماضية وربما وجودها هنا بين العديد من الناس يدخل لنفسها بعض الأمان... ويرجو من الله أن لا يضطر لارتدائه طويلا!!
.................................................. .................................................. .................
اصطف كرم بسيارته عند باب كراج منزلهم دون أن يدخلها أو يرتجل منها، زفر بحدّة كاظما غيظه منها.... وضع قبضته بين شفتيه مانعا الكلمات بالغصب أن تخرج من بينهم كي لا يعيد السيناريو ذاته الذي حصل من أسبوع!!
لا شيء... خرج بالحوار معها بلا شيء... لا تعرفه... اجابة أصرت عليها دون أن تزيد عليها ولو حرفا!! حاول طمئنتها... أفهمها أنّه يريد فقط أن يعلم ليأخذ لها بثأرها... ليحميها ممن فعلها...يريد أن يقتص لها من الجاني... حتى أنّه ألمح لها ان كانت قد أدخلته جاهلة بنواياه الحقيرة أن تقول له ولا تخاف... فهو متفهم... هذا ما ادّعى... وما أبعده بحضورها عن التفهم!! عندها فقط انتهى التحقيق... اكراها... باحتقان وجهها واحمرار عينيها المنذرتين بهطول غزير وفضيحة علنية!!
وها هي منذ أن دخلت السيارة وحتى وصلوا ودموعها مستمرة بالهطول!! التف اليها ليقول متجهما: اطلعي أنت عالبيت لحالك أنا وراي شغلة بدي أعملها
تلكأت غزل ونزلت من السيارة بأرجل مرتجفة تناظر المنزل المظلم بالكامل دون أن تحرك ساقيها باتجاهه، مال كرم قليلا بجسده ناحية الباب من جهتها ليقول مستغربا: ايش في مالك ليش ما طلعتي؟
استدارت غزل ناحيته تقول بعد أن حاولت بلع ريقها بفشل: شكلهم ما روحوا... ما في حدة بالبيت
رفع كرم حاجبا واحد يحاول أن يفهم ما تريده بالضبط لتـأتيه الفكرة لتنير عقله فجأة بينما يشاهد وجهها المصفر ودموعها لا زالت تحفر بكحل عينيها طريقا فيه ليزفر بحدّة ويخرج صافقا باب السيارة وراءه قائلا بعد أن مرّ من جانبها: تفضلي قدامي
ما ان دخل كرم شقتهم حتى فتح جميع الانارات فيها وكأنه يبعث في قلبها نوعا من الطمأنينة... رأته غزل يتجه نحو الباب من جديد لتسرع ناحيته وتمسك كم سترته دون أن تشعر قائلة ببحة مميزة: لا تروح!!
وقف كرم مستغربا من جرأتها المفاجئة مدركا أنّ خوفها ما يحركها وقد أشفق عليها فعلا ولكنه يخشى أن يشفق عليها أكثر... مما قد تكون عليه حالها ان بقي معها الآن بينما هو لم يفرغ غيظه بعد!!
مراجل من النار تغلي داخله بعد فشله التام بمهمته رغم كل محاولاته معها والتي باءت بالفشل لأنّه ببساطة غير مقتنع!!
شاهدت غزل تردده يلوح من عينيه لتقول: خلّيك معي
ضربته كلمتها بالعمق مدغدغة فيه الرجولة ليهمس بما يجيش في صدره لها: مخنوق!!
هذه المرة نظرت له في عمق عينيه علّه يقرأ فيها مدى خوفها من البقاء وحدها ومدى حاجتها له: شوي بس.. الله يخليك!!
نظرت غزل لظهره المنكمش متوجها لغرفة النوم بينما قطرات جديدة تترقرق بفرزدقها الجريح... غاضب... تعلم ذلك... ولكن ما باليد حيلة وما يطلبه منها مستحيل... كيف تخبره بما لا يتعلق بها وحدها؟ كيف تريحه ورقبة غيره مهددة بالمصقلة؟ يريد أن يأخذ لها حقها.... ألا يعلم بأنّ حقها قد أخذ ومنذ زمن طويل!!!
.................................................. .................................................. .................
أغلقت سراب باب غرفتها واستندت عليه بظهرها بحالة من الانهيار العاطفي... أغمضت عينيها وبسمة صغيرة حالمة تزين ثغرها... لا تذكر أنها كانت يوما في مثل هذه السعادة!!
كيف لا وأحمدها قد أصبح لها... وكأنها قد حصلت اليوم على كل ما عاشت عمرها لأجله... كمن كانت بصحراء عطشة جدا ووجدت الماء أخيرا لتنهل منه وتعب عبّا!! أحمد هو واحتها التي ستمضي بقية عمرها تتفيّء بظلالها... يا الله ما أجمله من يوم!!!
توجهت نحو مرآتها تقف أمامها تراقب وجهها الذي اكتسى بحمرة لذيذة وعيونها تلمع ببريق خاص... تنظر لنفسها الآن فترى أنثى جديدة لا تعرفها... ازدادت جمالا... وأنوثة... ما أسعد حظها الذي لطالما لعنته ظنا منها بأنّه عاثر!! ان كانت رشفة واحدة من نهر حنانه ودفئه المتدفق قد فعلت بها ذلك فما بالك بذلك اليوم الذي ستغمر نفسها فيه تتلاعب وترتشف!!
رمت نفسها على سريرها تذكر خجلها الرهيب الذي شعرت به ما ان دخل أحمد ليبارك لها... وهي التي لم تكن تعلم بأنها قادرة على الخجل!! لكن... رغم ذلك... وجدت قدماها تتلكآن بخطوة ونصفها بينما تنتظر الصف الطويل الذي يسبقها للسلام عليه والمباركة له والمكون من ... أمها و زوجة خالها!!
تذكر دقات قلبها التي فضحتها مهللة ومرحبة بذلك الحبيب الذي أطال الغياب... نظرت له بعينين تغشاهما الدموع... دموع بطعم الشهد المحلّى بحلاوة الفرحة... هبطت نبضات قلبها لما دون القدمين لتقفز مرة أخرى للأعلى بينما تنظر لعينيه تتجول على تقاسيمها الناعمة السمراء ليقول بهمس رجولي: مبروك حبيبتي!!
قفزت سراب عن السرير لتدور وتدور وتدور بالغرفة بطاقة متفجرة لا زالت تكتنزها اثر هاتين الكلمتين لتقف فجأة وهي تقهقه بينما تذكر كيف تلكأت عينيه بقهر على ما ظهر من ذراعيها حيث لم يغطيهما الشال وما بقي من ساقيها ولم يستره الفستان الوردي الذي ترتديه ليقول بعدها بصوت أجش وصل اليها وحدها: الله يسامحه عمي!!
أشار لها وقتها بيده لتجلس بينما تسأله بعدم فهم: ليش شو عمل؟
ابتسم وقتها وقال بنفخة قهر: أجّل كتب الكتاب... كان كسبنا بوسة جينك و ... ايدك...
توردت بالكامل بينما تتخيل ما كان سيحدث لها لو فعل ما قال لتقاطع زوجة خالها أفكارها بينما تعطي ابنها الدبلة والمحبس ليلبسهم لعروسه...
عادت سراب ترمي نفسها مرة أخرى على السرير بينما تنظر ليدها اليمين المزينة بدبلتها ومحبسها من فوقها بينما ترجف من جديد وكأنها للتو كانت في كفه فتغلق عينيها وتهمس بحنق خجول بينما تذكر كيف ضغط احمد على كفها قبل أن يفلتها: الله يسامحك يا بابا!!
.................................................. .................................................. .................
أنت تقرأ
عيون لا تعرف النوم(الجزء الأول من سلسلة مغتربون في الحب) مكتملة
Romanceرواية بقلم الكاتبة المبدعة والمتألقة نيفين ابو غنيم.. الجزء الأول من سلسلة مغتربون في الحب حقوق الملكية محفوظة للكاتبة نيفين ابو غنيم..