الفصل الرابع والعشرون والأخير
ما قبل البداية
كانت غزل تطوي سجّادة الصلاة وقد أنهت لتوّها صلاة الظهر حين اخترق هاتفها بصوته الصمت من حولها، لحسن حظها أنّها كانت تحتفظ به لجانبها كي تقرأ منه بعض الأذكار بعد انتهاءها من الصلاة... ما بين مصدقة ومكذبة فتحت خطّ الهاتف سامحة لأنفاسها اللاهثة الملتاعة بمداعبة أسماعه... أرادت الحديث ولكنّ الغصة وقفت مانعا ما بينها وبين ما تريد فسمعته يناديها متسائلا: غزل... سامعتيني؟
شهقة بكاءها وصلته... تبكي ولا تعرف لماذا سوى أنّها مصابة بحمّى شوق وافتقاد وسماعها لصوته لم يكن سوى زيادة بالألم... ليغضّ الطرف هو هذه المرّة عن بكاءها ويسأل بخشونة: سؤال واحد بس غزل... ريحيني وجاوبي عليه بكل صراحة... وشو ما يكون جوابك انا راح... أنا... بإختصار... لو كانت إلك حريّة الإختيار قبل أربع سنين كنتي بتتزوجي عماد ولا بتتزوجيني؟
لا إراديا توقفت أنفاسها قليلا، وبعد لحظات من الإدراك تبدلت الدموع في مآقيها إلى ابتسامة متلألئة... يغار عليها ولكم هو شئ رائع أنّه يفعل... ومن بين صحوة مشاعرها سمعته ينادي من جديد: غزل سمعتيني؟!
تذكرت غزل طلب خالتها منها أن لا تبالغ بالحرمان والصدّ وتذكرت كلّ النقاشات التي أجرتها مع المعالجة التأهيلية المختصة حول حقيقة علاقتها مع كرم وحول كيفية التعامل معه من زاوية جديدة لطالما أنّها ترغب في تجاوز الماضي وبناء علاقة حقيقية معه مهما بدت لها تلك الخطوة صعبة فتنحنحت وقالت: كيف بدّي اختارك وأنت أصلا ما كنت طلبتني؟!
في غرفته هناك قطّب كرم جبينه وقال: شو يعني؟ كنتي بتختاري عماد؟
تفكّرت قليلا وقالت مبتسمة: مين جاب سيرة عماد؟!
سألها كرم بخشونة وقلّة صبر: يعني شو؟
أجابته غزل بصوت بدا مجروحا لأسماعه بعض الشئ: يعني أنا فعلا كان عندي اختيار... ما بين واحد شاريني وبدّه إيّاني وهو بلسانه عرض يصلّح غلطة غيره... وما بين واحد انفرضت عليه فرض وتزوجني غصبن عنّه
صمت كرم مصدوما مصعوقا ليقول بعدها بهمس عنيف: ليش؟ بعد كلّ اللي عملته فيكي؟ إهانات وبهادل وإتهامات وبالآخر طلعت أنا السبب... أنا السبب يا غزل
قالت غزل: الموضوع هاد خلصنا منه من أول واتفقنا إنّك كنت مظلوم وضحيّة زيّي زيّك
وكعادته دوما عند قهره وضع كرم قبضته بين فكيه يعضّ عليها بقهر: قبل ما يطلع الحقير صاحبي وداخل بمفتاحي... مقهور يا غزل مقهور... جوّاي نااار ومش عارف كيف بدّي أطفّيها... يا ريته عايش يا ريته عايش... يا ريتني كنت متت ولا عرفت إنّي السبب باللي صارلك... آآآخ بس آآآخ
تقطّع قلبها وجعا لحاله وحمدت الله بداخلها أن ألهمها القوّة من بعد ضعف... فحين يتهاوي الحائط الذي ترتكز عليه، عليها هي أن تصلب قوّتها فتعيد ترميمه... قالت له ببعض الحدّة: كرم... الله يخلّيك أنا تعبت... تعبت من اللف والدوران حوالين الحقّ على مين... ومين فينا غلط بحق مين... والذنب لازم يكون على مين... إنت اخترت صاحبك غلط وهاي هي غلطتك... غلطة بيغلطها كتير للأسف بس هون بينتهي غلطك... الله ما بيحاسب عبد على غلطة غيره... اللي صار قدرنا وإحنا لازم نتقبله ونعرف كيف نتعامل معاه مش هاد هو كلامك... احكي الحمد لله يا كرم
كانت كلماتها تنزل كما البلسم على روحه فحمد الله من قلبه قبل أن تكمل هي برضى وصدق: أمّا بالنسبة لليش.. فـ... يمكن لإنّي ما كنت بقدر أتخيّل غيرك زوجي... عقلي الباطن خلّاني أسكت وأوافق على زواجنا... لإنّه هاد هو الإشي اللي... متكيّف معاه من زمان... ما فكّر إنّك مغصوب... وما فكّر بأي خيارات تانية... فتقبّل نصيبه متل ما هو!
لم يكن كرم بقادر على إستيعاب تلك الإشارات المتدارية بين كلماتها بخجل فتناسى المهم وركّز على ما بدى له الأهم وقال: بكفّي تحكي مغصوب... يمكن بوقتها كنت مغصوب... مغصوب على واقع اللي صار وعلى الوضع الزفت اللي لقيت حالي فيه... بتعرفي شو يعني زلمة يشوف حبيبته اللي نفى حاله بعيد عنها وعن أهله لحتى يحفظها ويحافظ عليها من نظرة منّه ممكن تخدش براءتها... تكبّرها قبل بوقت... يشوفها بوضع آآآآخ ... الفكرة لحالها بتهزّ جبل مش زلام... فكيف لو كانت بنت عمه حبيبته اللي كان معاهد نفسه ما يسافر الّا وهي مسمّية على إسمه... وما بيلحق يستوعب الضربة الأولى الّا والتانية جاية تصحّي بكفّ من أبوه بيتهمه انّه هو اللي عملها...
كانت قطرات من دموع الألم تنحدر صامتة على وجنتيها على حال بائس وضعا فيه... ابتلاء من الله لكنّه والله قاسٍ... تجرحها كلماته ولكنّها لا تهتم فهي العالمة كيف بأنّه يبرع بالعلاج كبراعته بالجرح بل وأكثر... ولم يخيّب لها ظنّها فقال: أنا ما انغصبت يا غزل... ما حد بينغصب على إشي شايفه زي الحلم البعيييد... كنت قرّرت بهديك السنة إنّي ملّيت من الإنتظار... وإنّه صار لازم آخد من أبوي كلمة إنّك إلي... إنتي روحي يا غزل... روحي... والسنين اللي مضت من عمري من غيرك ما بتنحسب لإنّي ببساطة كنت فيها ميش عايش...
دون أن تشعر ودون أن تريد ودون حتّى أن تفهم... انزلقت الكلمات منها تسحبهما معا لعالم ورديّ كما حلم خياليّ جميل عن عالم الجنيّات والأميرات: وأنا بحبّك يا كرم
قالتها وأقفلت الهاتف كما لو أنّ لحظة الإدارك قد أيقظتها بسرعة موبخة إيّاها ومختطفة إيّاها منه... أمسك هاتفه يريد معاودة الإتصال لكنّ ارتعاشة اصابعه أبت مطاوعته... وكيف تطيعه بقلب مرتعش وعقل متراخٍ مذهول... قد بات كلّه منتشيا مرتعشا كما لو أنّه قد أخذ جرعة عالية من أيّ مخدّر فغيبته عن الواقع فبات يعيش في حالة من الهذيان... أقالتها فعلا أم تهيّأ له ذلك... هل قالت أنّها تحبّه حقا أم نفثت في وجهه بتعاويذ سحرية تلاعبت في عقله... يا الله يا الله... تحبّه... غزله تحبّه... يستحقّ أم لا... مذنب أم لا... ما عاد شئ مهم... فغزله تحبّه!!!
وعلى ترنيمة كلماتها تهدهده مرة تلو المرة تلو المرة... نام جسده والعيون لكنّ العقل استمرّ في ترديد الكلمات "وأنا بحبك يا كرم" كما لو أنّه يطمئنه في نومه أن لا تقلق فكلّ شئ بخير... العالم ما عاد أسودا والواقع لم يعد مرّا والجروح كلّها اندملت ولم تترك من وراءها أثرا... أمّا روحة فكانت قصّة أخرى... حلّقت بعيدا فما عاد بقادر على اللحاق بها... فقد وصلت هناك حيث الحبيبة ترقد فوق سجّادتها في هدوء فتكوّرت بجانبها واختبأت بين حنايا صدرها و... نامت!!
أنت تقرأ
عيون لا تعرف النوم(الجزء الأول من سلسلة مغتربون في الحب) مكتملة
Romanceرواية بقلم الكاتبة المبدعة والمتألقة نيفين ابو غنيم.. الجزء الأول من سلسلة مغتربون في الحب حقوق الملكية محفوظة للكاتبة نيفين ابو غنيم..