التاسع والعشرون

191 3 0
                                    

ليت ما أصابها يوم موت والدها( عدم قدرتها على البكاء) أصابها الآن.
لأنها عازمة بالفعل، ولن تتراجع.
زين.. ورغم قسوته الظاهرة على ملامح وجهه بسبب عنادها، وعلى كلامه الذي لم يعجبها.
إلا أن عيناه ترجوها أن تبقى.
وهي رغم إصرارها منذ ذلك اليوم، ورغم القسم الذي أقسمته على نفسها بأنها لن تبقى ولن تستمع إلى نداءات قلبها الأخرق وعقلها الأحمق ولا رجاءات زين.
ووعدها لنفسها أنها لن تبكي أبدا.
لم تتمكن من ألّا تغرق وجنتيها بتلك الدموع، والتي تظن أن صالة المطار ستمتليء بها إن بقيت فيها أكثر، نعم.. لم يعد ذلك من المستحيلات!
ولّت ظهرها أخيرا تشد على حبل حقيبة كتفها وتغمض عيناها بقوة.
تهمس لنفسها ( هذي آخر هزيمة يا رؤى، لا تستسلمي.. خليكِ قوية وكملي اللي بدأتيه).
سارت خلف ياسر الذي يدفع حقيبته وحقيبتها حتى استقرا بداخل الطائرة.
كفّت عن البكاء حين بدأت الطائرة بالارتفاع شيئا فشيئا، وأيقنت أخيرا..
أن كل شيء انتهى بالفعل.
أسندت رأسها على النافذة تتأمل الخارج من خلالها.
حتى ارتفعت الطائرة تماما وصارت الرياض صغيرة.
نهضت من مكانها لتتجه إلى دورات المياه.
خلعت نقابها لتتفاجأ بل تنصدم من احمرار وجهها الغير معقول.
غسلته بقوة وأعادت لفّ حجابها وإحكامه بعد أن غطت عيناها المنتفختان بنظارة سوداء كبيرة، ثم تلثمت.
حين عادت إلى مكانها أراحت ظهرها وهي تقول:
- أبي أنام ياسر ولا أبي أصحى إلا لما نوصل، تمام؟
أجابها بهدوء وعاد ليقرأ الكتاب الذي بيده.
نامت رؤى بالفعل، ولكنه لم يكن نوما مريحا على الإطلاق.
إذا ما حدث قبل قليل ظل يتكرر حتى في منامها.

قبل أكثر من ساعة..
خرجت من حجرتها وهي جاهزة تماما، لتجد الجميع يجلس في الصالة.
نظرت إليهم بصمت ثم اقتربت من حياة.
لتقف الأخرى وهي تبكي:
- يعني لازم تسافرين يا رؤى؟
رؤى بالبرود الذي اعتادته مؤخرا:
- هادي لوحده هناك وهو بحاجتي.
أمسكت حياة بذارعيها:
- بس سمعنا إنه خلاص قد سوى العملية وإنه بخير ومافيه إلا العافية/ يعني راح يرجع قريب بإذن الله، لو كان تعبان إلى الآن ما حاولت أمنعك ولا كنت بقول شيء، تكفين يا بنتي لا توجعين قلبي.
رؤى بجدية:
- بسم الله على قلبك من الوجع خالتي، أنا أعتذر.. بس لازم أسافر وأشوف حياتي اللي مستحيل تتغير لو ظليت هنا، وبعد ما آذيت الكل أحس الأرض مو متحملتني، ولا أنا متحملة نفسي بعد كل شيء صار.
رفعت حياة كفها لتضعها على خد رؤى:
- ما لك ذنب يا بنتي، انتِ ما سويتي شيء بس حبيتي تبينين الحقيقة وتأخذين حق أخوك، واللي صار بعده إنتِ ما لك ذنب فيه، فهد بخير الحين وما يشتكي من شيء.
ودت رؤى أن تجيبها بـ ( ليتك استوعبتِ هالشيء من زمان، إني حبيت أبين الحقيقة وأخذ حق أخوي مو أكثر).. ولكنها راحلة، ولا تريد أن يكون آخر ما تقوله موجعا لأي كان، خاصة حياة بالطبع.. ابتسمت رؤى رغما عنها:
- أنا ما قررت أسافر بس عشان اللي صار، باين أصلا إنه ما عاد لي مستقبل واضح بحاول أكمل دراستي.. وأتأقلم في بيئة جديدة، صعب أنسى كل اللي صار وأنا قاعدة بنفس المكان، آسفة.
قالتها وعانقت حياة؛ لتخرس لسانها الذي ينوي نطق المزيد من الكلام لإيقافها.
بادلتها حياة العناق بقوة وهي تبكي بحزن على فراق ابنة زوجها.. بل ابنتها.
لم تتوقع يوما أو تتخيل أنها ستودع رؤى بكل هذه المشاعر الحزينة.
كان الوداع المنطقي أصلا، هو وداعها حين تذهب برفقة زين إلى بيتهما بالتأكيد.
ولكن ما حصل كان صادما وموجعا للغاية.
ابتعدت عن حياة لتبتسم لرائد من بين دموعها.
مسح هو على شعرها بحنان ثم قبّل جبينها:
- تدري إني أبدا ماني راضي عن سفرتك هذي، لكن.. ما راح أمنعك إذا هالشيء راح يريحك.
أومأت برأسها وعانقته.
لتنتقل بعده إلى سامي الذي لم يتفوه بشيء.
بل بكى من أجلها وعاتبها بصمت.
أنهى عتابه ذلك بقبلة على جبينها.
ودّعت الصغيرة قمر.
لتسأل عن لجين بعد ذلك، وتخبرها حياة أنها بداخل حجرتها.. ولن تخرج للوداع لأنها غاضبة للغاية.
أومأت برأسها بتفهم، ثم ودعتهم للمرة الأخيرة بالقرب من الباب واستقلت سيارة رائد الذي تكفل بإيصالهما.
سألها وهما في الطريق إلى المطار:
- غريب يا رؤى بعد كل اللي سويتيه عشان أخوك تسافرين والقضية لسه ما تقفلت نهائي!
ردت ببرود تام:
- راح تنحل لو قعدت أو رحت، ما صارت قضيتي لوحدي الحين.. غير اني اكتفيت خلاص، مرتاحة إنهم عرفوا الحقيقة.
أكملت بعد صمت قصير حين نظر إليها رائد باستغراب:
- أمزح بشوف هادي ثم أرجع عشان المحاكمة، بعد كذا بسافر مرة ثانية عشان أدرس.
أومأ رائد برأسه بصمت ولم يقل شيئا آخر حتى ترجلت رؤى برفقة ياسر من السيارة بعد أن ودعت رائد للمرة الأخيرة.

الجزء الثاني من سلسلة ملامح الغياب: هزائم الروح حيث تعيش القصص. اكتشف الآن