الماضي …
فتح عيناه اللتان اتسعتا برعب، تفاجأ كثيرا حين أبصره.
كيف علم عن مكان تواجده؟
وما الذي يريده منه؟
اعتدل في جلسته بنظرات تائهة، يحاول التقاط أنفاسه.
جلس زين على ركبتيه ويده لا زالت على كتف فهد.
جرح قلبه منظر أخيه.
حين دخل ووجده شبه مستلقِ.
ملامحه تنطق عن الألم الذي يشعر به.
وجهه وعنقه يتصببان عرقا.
حين وضع يده على كتفه لينبهه فزع بشدة ثم فتح عيناه لينظر إليه برعب وضياع.
شعر لوهلة أنه أمام طفل وليس رجلا بلغ الثلاثون من عمره.
- وش جابك هنا فهد؟ وليش نايم كذا؟
أجابه فهد بعد أخرج من جيبه منديلا ومسح وجهه والتقط أنفاسه بصعوبة:
- انت اللي إيش جابك؟ كيف عرفت انى هنا؟
وقف زين واتجه ناحية النافذة ليتم تهوية المكان المكتوم قليلا:
- ميسم علمتني عن اللي صار اليوم في البيت، عرفت مكانك من الموقع، مرة ثانية إذا تبي تبعد عن الكل وتتخبى قفله.
التفت بعد ذلك ينظر إلى فهد باستغراب:
- سألتك وش منومك هنا؟
وقف فهد بوهن أمام جهاز التكييف ثم قال بهدوء:
- ما أدري، دخلت وجلست هنا.. نمت من دون ما أحس.جلس زين ثم نظر إلى فهد:
- ما دامنا هنا الحين، أظن صار الوقت مناسب عشان أسألك عن اللي صار هذاك اليوم وتجاوبني بصراحة من غير لف ودوران وكذب.
جلس فهد وقال دون أن يرفع رأسه:
- وليش الحين؟ ليش انتظرت ثلاث سنين؟
- لأن في هالثلاث سنين كان في حقيقة وحدة معروفة عند الكل، ما حبيت أضغط عليك بعد خروجك من السجن، لكن هالحقيقة أو الكذبة بالأصح، يمكن انطلت على الكل إلا أنا.
نظر إليه فهد بسخرية:
- متأكد إنه بس انت اللي ما مشت عليك؟ ورؤى؟
صمت قليلا قبل أن يجيب بهدوء:
- صحيح، حتى رؤى ما صدقت.. لذلك أنا أسألك الحين.
رفع رأسه أخيرا لينظر إلى أخيه بألم:
- عشان تساعد الشرطة تمسكني؟
بحدة:
- أنا ماني عدوك فهد، إذا كنت فعلا غلطان وانت اللي قتلته راح تلقى عقابك أكيد، وإذا لا صدقني بسوي أي شيء عشان أطلعك من السالفة.
نظر فهد تلقائيا ناحية الباب المغلق:
- ليش طيب بعد كل هالوقت؟ لجين قالت لي إنه رؤى رجعت مثل قبل تبي تنتقم مني، ليش كانت ساكتة قبل؟
- ما أدري، بس يمكن موت أبوها أثر فيها لهالدرجة ...!
صمت فهد.. من حقها.
ليست مخطئة أبدا.
لن يلومها على مطالبتها بثأر أخيها.
لن يلومها أبدا على ما تشعر به بعد أن توفى أبيها وشعرت بالوحدة مرة أخرى.
يود أن يعترف بما حصل تماما.
أن يخبر الجميع بتفاصيل تلك الليلة.
صدره مثقل، يريد أن يريح نفسه من هذا الثقل.
يريد أن يتلقى ما يستحقه من عقاب ليشعر بالراحة.
عقد حاجبيه مستغربا من نفسه وطريقة تفكيره.
منذ متى أصبح يفكر هكذا؟انتبه من غفلته على صوت أخيه:
- فهد بتتكلم ولا لا؟ شوف كيف صارت الأحوال بس لأن الحقيقة مو واضحة، وما حد يعرف اللي صار بالضبط، انت انطردت من البيت، ورؤى انجنت تماما، اليوم تطلب مني الطلاق.
اتسعت عينا فهد بصدمة وشعر بالألم وتأنيب الضمير من أجل أخيه:
- طلبت الطلاق؟
أجابه زين بعد أن تنهد بضيق:
- إيه، حتى بعد ما مات ماهر ما كانت الأمور فوضوية بهالشكل.
نظر إليه فهد لبعض الوقت بضيق شديد.
شقيقه الطيب، هل يعاني كثيرا وبسببه هو ...!
حتى أنه غير قادر على الاجتماع بزوجته التي عقد عليها منذ أربع سنوات ...!
والسبب هو؟
لو يتحدث الآن.
لو يعترف بكل شيء.
ربما ستحل جميع الأمور.
سينهي كل تلك الفوضى.
زين كان الوحيد الذي وقف معه حين وقف الجميع ضده، حتى والديه.
ودافع عنه وحاول أن يبقيه بعيدا عن المصائب التي كانت ستقع لولا فضل الله ثم هو.
أبعده بقدر الإمكان عما سيعيده إلى السجن ربما.
ليس لأنه أخيه فقط، بل لأنه لم يصدق أنه القاتل.
نعم، زين لم يصدق.
زين يشك بأحد آخر، يشعر بأن هناك طرف آخر متورط.
ولكنه فقط يريد طرف الخيط ليبدأ بالتصرف.
ليريح الجميع من هذا الهم وينهي هذه المشكلة التي جعلتهم جميعا في مأزق.
كل من يعرفهم شك به وإن كانوا قد تراجعوا بعد ذلك حين تمت تبرئته.
إلا زين، لم يشك به ولو للحظة.
هل حقا.. عليه أن يتحدث الآن ويعترف بكل شيء؟
هز رأسه نفيا.
إن اعترف، سيفعل زين كل شيء لينقذ علاقته برؤى.
لا يريد خسارتها بالتأكيد.
لن يضحي بشيء من أجلها.
إنه يحبها بجنون.
يعني أن صبره هو فهد، وكل ما فعله طوال ثلاث سنوات.. سيضيع هباء.
لن يفعل ذلك.
- أنا آسف زين، بس ما أقدر أسوي شيء.
توقف قليلا ليكمل بتلعثم:
- ووو انت خلاص لازم تصدق مثلك مثل الكل، اني أنا اللي قتلت ماهر، هذي الحقيقة وما في غيرها، وإذا تباني أتعاقب أبد ما عندي مشكلة، ودني عند الشرطة، وباعترف صدقني، ما عدت أهتم بشيء.
توقف مرة أخرى يبتلع تلك الغصة المتحجرة في حلقه:
- كنت أحاول قد ما أقدر إني أحسن صورتي عند الكل، يمكن غلطت وأخطيت كثير، بس صدقني كل شيء صار ضد إرادتي، وحسيت إني نجحت بهالشيء، إلا لما صدمتني أمي اليوم، ونادتني بالقاتل والمجرم.
ضحك بألم وعيناه تلمعان بالدموع:
- تخيل؟ أمك وهي أمك.. تشك فيك أكثر من الكل؟ بعد هالشيء يا زين تتوقع أني بكون خايف من السجن أو حتى من القصاص؟ إيه.. روح الحين عند زوجتك، وخليها ترفع علي القضية من جديد، أنا قاعد هنا ماني متحرك لين تجي الشرطة تأخذني.
وقف زين واقترب منه بغضب:
- كلامك هذا خلاني أتأكد من شكوكي، وإنه مو انت لوحدك المتورط.. علمني الحقيقة يا فهد.
ضحك فهد مرة أخرى يهز رأسه:
- ما عندي شيء أقوله غير اللي قلته، صدقني بس أسلم نفسي بتنحل كل المشاكل، وراح تقدرون تتزوجون أخيرا انت ورؤى، وتعيشون بسلام.
علم زين أن فهد يريد استفزازه ليس أكثر، سأل بقلة صبر:
- ولجين؟ بتترك هالبنت الصغيرة وراك أرملة؟ بس لأنك تبي مشاكل الكل تنحل؟
شحبت ملامح فهد عند ذكر اسمها وشعر بألم في قلبه:
- ما عليك منها يا زين، اهتم بنفسك وحياتك بس.
صرخ زين بعد أن فقد صبره:
- يا غبي، انت تظن اني جاي أسمع منك بس لأني مهتم بحياتي؟ ليش ما تفتح عيونك زين وتشوف الواقع؟ عاجبك إنه أمك تشك فيك؟ وإنه نجود خايفة منك على طول لدرجة إنها تزوجت أخ زوجها المقتول؟ وإنه يمكن في المستقبل تميم يطالع فيك على إنك قاتل أبوه مو خاله؟ وإنه زوجة أخوك تظل حاقدة عليك طول عمرها لأنها ما تعرف عنك غير حقيقة إنك قاتل أخوها؟
تسارعت دقات قلب فهد وشعر بكلمات زين كطعنات خنجر على قلبه.
يا إلهي كم هي مؤلمة تلك الوقائع!
تحدث بهدوء وبعكس ما يشعر:
- مو عاجبني شيء من هالأشياء، بس ليش ما أتحملها ما دامني غلطت؟
رمقه زين بحدة وعدم تصديق ثم سأله بخفوت:
- طيب ليش شلت كل ذاكرات كاميرات المراقبة سواء داخل الاستراحة أو كاميرات برة؟ لو صدق تبي تتعاقب؟
ابتلع فهد ريقه وتفاجأ من سؤاله:
- وقتها من الخوف والرعب اللي حسيت فيه فكرت أتخلص من كل شيء ممكن يدينني، بس الحين.. بعد ما سمعت عن اللي صاير في بيت عمي ما أتوقع إني أقدر أتحمل هالذنب وأسكت.
كاذب، كاذب.
يا له من رجل أحمق مجنون.
كيف له أن يكذب بهذا الوضوح؟
ولكنه مصر، لن يترك فهد حتى يعرف الحقيقة.
ولن يتركه يبيت خارج المنزل.
لن يتركه يعود لضلالته بعد أن استوى قليلا وأكثر عن السابق من أجل لجين، اقترب منه حتى صار مواجها له، ولم يكن ذلك صعبا.. فزين ذو بنية قصيرة ونحيلة، بعكس فهد الطويل:
- مين هذا اللي تبي تحميه يا فهد؟ وليش؟
علم فهد أيضا أن جميع أعذاره وكذباته لم تنفع، ولم تقنع زين.
وعلم أنه لن يتركه حتى يقر ويعترف بالحقيقة الغائبة، لذا أجابه بصدق.
بالحقيقة التي شطرت قلب زين إلى نصفين.
![](https://img.wattpad.com/cover/210156860-288-k735592.jpg)
أنت تقرأ
الجزء الثاني من سلسلة ملامح الغياب: هزائم الروح
Misterio / Suspensoقصص جديدة، وأخرى مكملة لقصص من الجزء الأول 💜✨