كهف خارج إدنبرة –اسكتلندا-
27 أكتوبر 1568
عندما كان طفلا صغيرا، اعتاد جون لورنت أن يجلس على سطح منزله الآجوري المهترئ ويحدق في البحر أمامه حالما باليوم الذي يركب فيه إحدى تلك السفن الكبيرة ذات الأشرعة الملونة التي تتمايل مع الأمواج في الميناء قرب قريته، ويذهب بعيدا، لا يهم إلى أين طالما تتاح له الفرصة ليرى أماكن جديدة. رغم أنه لم يغادر حدود قريته على الإطلاق إلا أنه كان متأكدا تماما أن هناك أشياء في غاية الروعة تستحق أن ترى في العالم الخارجي، أماكن وأشخاص وحكايات، أراد أن تتاح له الفرصة ليكتشف كل هذا، كان هذا حلمه.
كان والده صيادا، في شبابه اعتاد أن يكون بحارا، يجوب المياه على سفن كبيرة الحجم محملة بالبضائع ويتاجر بها، ولطالما حكى لابنه عن الأشياء التي رآها عندما زار الهند وبلاد الفرس وإفريقيا. وعندما أصبح يملك عائلة تخلى عن حياة التجوال لأنه أراد البقاء بالقرب منهم حتى إن عنى هذا أن مستواهم المعيشي سينخفض.
كان منزل جون لورنت صغيرا جدا، يتكون من غرفة واحدة ومطبخ صغير. وفي إحدى الزوايا قبعت خزانة عالية ممتلئة بكتب حصل عليها أبوه أثناء رحلاته الكثيرة. سمع جون أمه تتوسل أباه أن يبيعها مرات كثيرة، في الشتاء خاصة عندما يكونون في ضيقة مالية، لكنه رفض دون تردد مرارا وتكرارا. لم يكن أبوه قارئا بل كان أميا، وبعد أن جال العالم ورأى مدى سعة علم الناس وفهم سحر الكتب ندم أشد الندم لعدم تعلمه القراءة في صغره، وكثيرا ما رآه جون يحدق في مكتبتهم الصغيرة بحسرة وشوق في عينيه. لكنه عوض هذا بدفع ابنه للقراءة، أخبره مرارا وتكرارا أنه يحتفظ بكل هذه الكتب من أجله، حتى يحظى بالمعرفة والعلم الذي تاق هو ليحظى بهما.
لا يذكر جون من علمه القراءة كل ما يعرفه هو أنه كان يقرأ منذ نعومة أضافره، حتى أنه اعتاد أن يقرأ لوالده ليعوضه عن عدم قدرته على استكشاف الكتب بنفسه. عندما أصبح شابا وبطريقة ما نجح بالالتحاق بجامعة أكسفورد، وكان أبوه شديد الفخر بهذا حتى أنه كان ربما أكثر سعادة من ابنه نفسه، لا يزال جون يتذكر وجه أبيه المليء بالتجاعيد مبللا بدموع الفرح، وابتسامته الواسعة امتدت من الأذن حتى الأخرى كاشفة عن صف من الأسنان الصفراء. كان يمشي في القرية برأس مرفوع عاليا ويخبر كل من يلتقيه أن ابنه ذاهب للجامعة، لم يسبق جون أن رآه سعيدا هكذا، وهذه هي الذكرى التي يحب الاحتفاظ بها كآخر ذكرى عن والده نظرا لأنه مات بعدها ببضعة أسابيع فقط.
قبيل تخرجه من الجامعة حظي جون لورنت وبضعة طلاب آخرين من أصحاب الدرجات العالية بفرصة حضور حفل استقبال ملكي في لندن، تستضيفه الملكة نفسها. وتمنى جون لو يستطيع أبوه أن يرى أين وصل ابنه.
لم يحظى جون أو أي من زملائه بفرصة الحديث مع الملكة نظرا لكونها كانت منشغلة بالحديث مع سفراء من اسبانيا. لكنه وأثناء سعيه للحصول على أحد شطائر السلطعون الصغيرة وجد نفسه واقفا بجانب جلالتها ومستشارها يتناقشان حول أفضل قرار لاتخاذه بشأن قضية سياسية مع اسبانيا. تذكر أنه سمع أستاذه في الجامعة يتحدث عن هذا الموضوع، وصادف أنه ملك اقتراحا جميلا بهذا الشأن. وقف هناك للحظات طويلة يستمع إلى ذاك المستشار العجوز ذي البطن المترهل يعطي الملكة اقتراحات فكر جون أن أفضل ما يقال عنها هو حمقاء. وتمنى لو كان هو في مكانه، ثم تذكر عبارة اعتاد أبوه أن يخبره بها منذ صغره، تذكر يوم كان سيغادر إلى جامعته ووضع والده يديه على كتفيه وقال: "جون، الحياة قاسية وعديمة الرحمة ولا تقدم لأشخاص مثلنا شيئا غير البؤس والمعاناة، لكن تذكر أنك سيد مصيرك، إن أردت شيئا فتقدم وخذه لأن الحياة لن تقدمه لك على طبق من ذهب، اجعل طموحك عاليا ثم سخر نفسك وكل ما تملك حتى تصل إليه. أنا أثق أنك ستصل إلى مكان عال جدا وسأكون حينها فخورا جدا بك".
أنت تقرأ
قصة ملكتين
أدب تاريخيماري ستيوارت اليزابيث تيودور ملكتان... امراتان... مناضلتان شاءت الاقدار ان تكونا عدوتين لدودتين.. لكن ماذا لو لم تسر الامور بهذه الطريقة عندما تتعقد الاوضاع وتنتشر المؤامرات تكتشفان ان الكره تجاههما ليس بدافع الدين او الوطن او السياسة وانما كونهما ا...