٦. حُلُمٌ لا أَطَالُه

13 0 0
                                    



كيف لي أن أصرف قلب شهاب عن جنان؟.. كيف لي أن أزيلها من عقله؟.. حاولت في الأيام الماضية إقناع شهاب بالعودة لدرياقة، مدينتنا التي غادرناها منذ عدة أيام.. حاولت إقناعه أن تخلُّفنا في سينار سيثير قلق والديه عليه، ووالديّ بالصورة ذاتها.. لكنه صمد أمام محاولاتي ولم يحرك ساكناً في ذلك النُزُل الذي استأجرنا غرفةً فيه منذ وصولنا سينار..

كنت أرجو أن أقنعه بالرحيل ومغادرة سينار عسى أن ينسى جنان ويتناساها.. ثم أعود بعدها بأيام، بعد أن أعد العدة وأجهز الهدايا والعطايا، لأتقدم لأبيها طالباً الزواج من مهجة قلبي.. ومن يمكنه أن يرفضني؟..

لكن شهاب كان أعند مما توقعت.. ظل صامداً في النُزل بانتظار أن تخفت الزوبعة التي أثيرت بحادث الاختطاف.. لكن الزوبعة تلك لم تهدأ.. بل ثارت واشتدّت بعودة جنان رديفةً لشهاب.. وفي ذلك اليوم الذي وصلتنا فيه أخبار الشائعات التي تناقلها سكان الحي والأحياء القريبة، تناقلوها بشغف ولهفة فشهرة جنان تلفت الأنظار لكل صغيرةٍ وكبيرةٍ في حياتها.. في ذلك اليوم، اختفى شهاب من النزل دون خبر.. ساورني شكٌ بمكانه، فانطلقت من فوري عائداً لمنزل جنان وأنا أخشى ما قد أراه.. وقد كان ما رأيته أسوأ مما توقعته..

علمت أن شهاب تقدم لخطبة جنان، وأن أباها رفض رفضاً قاطعاً وطرده بتهذيب يقترب أن يكون وعيداً.. لكن شهاب قرر الاعتصام أمام دارها ضارباً عرض الحائط بكل ما يسمعه ويراه في هذا الحي.. ألم يدرك أنه يزيد الأمور سوءاً؟.. أم أن ذلك لا يعنيه قط؟.. لم يفاجئني رفض أبيها قدر تفاجئي بتصرف شهاب.. كان منظره الذليل أمام دار جنان لمما يحطم أعصابي.. كيف له أن يقبل مذلةً مثل هذه على نفسه العزيزة؟.. اقتربت منه وجادلته.. تشاجرت معه.. هددته وتوعدته بشتى أنواع الوعيد.. لكنه لم يتزحزح قط.. لم يعبأ بالنظرات التي حملقت به بشماتةٍ وسخرية.. لم يعبأ ببعض البصقات التي بصقها المارة أرضاً وهم يحدجونه بازدراء ظناً منهم أنه قد دنّس فتاةً لا يحق له لمسها.. ولم يدرك أحدهم أن شهاب أطهر من أفكارهم العفنة.. وأن جنان أنقى من النقاء ذاته..

لم أرغب بأن أزيد صاحبي ذلاً بجرّه عنوةً أمام الآخرين.. فتراجعت مؤقتاً تاركاً إياه لشأنه لعلّ عناده يخفت بعد أن تقرص الشمس رأسه، واكتفيت بمراقبته من زقاقٍ قريب.. لكنه أثبت لي أنه أعند بمراحل.. وأن عشقه لجنان لا يستهان به.. أمضى ذلك اليوم وتلك الليلة لا يتحرك قيد أنملة.. وبعد تلك الساعات رأيت خادماً من المنزل المجاور يقترب منه داعياً إياه لتناول بعض الطعام أو الماء، لكن شهاب جاوبه بالصمت.. وقد قضى بالصمت ساعات اليوم التالي والليلة التي تلته حتى أمضى يومين معتصماً أمام دار جنان.. تباً له من عنيد!..

وقد تجاهل التاجر عثمان شهاب تجاهلاً تاماً.. لم يحاول تطييب خاطره بأي كلمة، ولم يحاول الوصول لأي اتفاقٍ معه ليمنحه الفرصة للانسحاب دون أن يكسر وعده.. ظللتُ مراقباً ما يجري وعيني تبحث بين النوافذ عن عيني محبوبتي.. أهي تراقب ما يجري بدورها؟.. هل تشفق على شهاب أم أنها تستنكر ما يفعله؟.. لا أدري، ولم أعرف كيف أسكت تساؤلاتي تلك وأنا أرى صاحبي يترنح رغم جلوسه أرضاً بإنهاكٍ واضح.. عندها، شعرت بالكيل يفيض بي، وبالغضب يتصاعد ليغشي عينيّ.. تقدمت من شهاب الذي ترنّح بضعف، فقلت له بنبرة تهديد "شهاب.. بالله عليك اترك هذا الخذل الذي أنت فيه ولنرحل عن هذا الحي وهذه المدينة بأكملها.."

حكاية - الجزء الأولحيث تعيش القصص. اكتشف الآن