١٤. دُروبٌ اخْتَرْناها

12 1 0
                                    



وقفنا على تلٍّ صخري نراقب مدينةً صغيرةً شغلت جزءاً من الأرض الفسيحة التي استبدلت الصحراء بأرضٍ صخرية لا تقل عنها قسوة.. وفي الأفق يمكننا أن نرى التلال المتراصة التي تكوّن حدودنا مع مملكة (كَلَدة) المعادية.. تلالٌ عظيمة الهيئة، ليست عالية لتسمى جبالاً، وليست منخفضةً لتوازي الأرض في تسطحها.. بل كانت تلالاً بيضاوية الهيئة، شاهقة البياض، تتكون من مجموعةٍ هائلة من الحصى الأبيض الصغير، والذي منحها لونه الناصع.. كانت رمال الصحراء على جبروتها قد نأت بنفسها عن هذه المنطقة ولم تغزُها كعادتها مع أغلب مناطق مملكتنا.. بل وقفت عند حدود السهل الصخري الذي تقع عليه مدينة الحرَّة، ولم تتجاوزه قط رغم مر القرون..

سارت الأحصنة على الأرض الصخرية تسلك الطريق الذي سيقودنا إلى الحرَّة ذات البيوت البيضاء التي تتماهى بلونها مع لون الأرض، مخالفةً بذلك اسمها الذي لا يلائمها على الإطلاق.. بدا مظهر المدينة وكأنها تحاول التخفي عن أعين الأعداء، والأصدقاء، على حد سواء.. ففي الواقع، شهد هذا السهل عدة معارك بين جيشي أرضنا والأرض المعادية، وفي مثل تلك المعارك يطال الخراب أجزاءً كبيرة من الحرَّة دون تمييز.. لكن العجيب أن سكانها قد تشبثوا بموقعهم ذاك ولم يحاولوا مغادرته.. وأصبحت الحرَّة أرضاً للهاربين من مملكة كَلَدة إلى أرضنا، وللمتسللين من أرضنا إلى كَلَدة.. أصبحت التجارة التي تدار بالخفاء بين البلدين قائمة لا يعوقها عائق.. خاصةً تجارة العبيد التي تستغل العداء بين المملكتين، فتقوم بتهريب المستعبدين حديثاً من بلدٍ لآخر دون أن يتمكن ذووهم من استرجاعهم قط..

ورغم السمعة التي لم تكن مما يفتخر بها سكان المدينة، لكنها بدت لأعيننا هادئةً مسالمة عدا الخراب الذي طال بعضاً من طرقاتها ومنازلها الأقدم.. كانت طرقاتها ضيقة، تملك سوقاً وحيداً في جانبها الشرقي، وتتفرق الأشجار بين أحيائها على استحياء.. سكانها لا يختلفون في الهيئة ولا اللباس عن سكان مدن المملكة الأخرى إلا في تمازجٍ بسيط مع شعب مملكة كَلَدة يظهر في بعض التفاصيل لمن يدقق النظر..

سارت بنا الأحصنة وسط الطرقات دون أن نلفت الانتباه أو تلاحظنا الأعين.. فالمدينة معتادةٌ على عابري السبيل ولا تكاد تعبأ بمن يمر بها أو يرحل عنها.. لكن ما لفت الأنظار إلينا كان تلفّت شهاب الدؤوب بمن يمر به، وسؤاله اللحوح عن جنان..

أمضينا هذا اليوم نتبعه في طرقات المدينة، ونجول في سوقها بحثاً عن خبرٍ من جنان دون فائدة.. علقت صفية وهي تنظر للسوق البسيط الذي لا يشابه في حجمه سوق سينار "ما الذي دعا تلك المخبولة للقدوم لهذه المدينة؟.. وضع المدينة رغم هدوئها لا يطمئن إطلاقاً.. وفوق ذلك، لم نجد لجنان أثراً حتى الآن.. فأين ذهبت؟"

قلتُ ساخراً "ليست جنان هي المخبولة الوحيدة هنا.."

كنتُ أعني شهاب وركضه الملهوف خلف خيطٍ ضعيف قد لا يقوده إليها.. لكن صفية ظنت أنني أعنيها بذلك، فقالت بضيق "ها أنتَ تصرّح بحقيقة رأيك بي.. لو كنتُ مخبولة، فلمَ طاوعتني في ما طلبته منك ولم تُعدني لسينار منذ البدء؟"

حكاية - الجزء الأولحيث تعيش القصص. اكتشف الآن