الفصل الثاني عشر [نداء في الظلمات]

50 3 30
                                    

بسم ﷲ الرّحمان الرّحيم

كانت الجزيرة تبدو خلّابة عن بعد؛ فنور القمر قد أنار ماتوسّطها من غابات ومن جبال كان أبرزها وأشدّها عظمة وشموخا جبل وحيد القرن وقد سمّي كذلك لشكله الذي يشبه قرني وحيد القرن، بحيث أنّ أحدهما أضخم من الآخر، ولهذا الجبل هيبته عند سكان الجزيرة، فكم رويت عنه وعمّن يعمره الأحاديث وكم إنتشرت حوله الإشاعات الغريبة والأساطير المشوّقة التي تنتشر في تلك المدينة الساحليّة كما ينتشر الوباء!
تلك المدينة التي تضيئها فالليل الأنوار المختلفة للطّرقات والمحلات والمنازل، والتي إتّخذ سكانها من السواحل أراض لبناء منازلهم ومحلاتهم وطرقاتهم بعيدا عن الغابات والجبال المخيفة.. فبدت المدينة في تلك الليلة وككل ليلة للناظر من ذلك القارب الصغير البالغ من البحر مكانا بعيدا كالطّوق الذهبيّ الخالص إلا من بعض قطعٍ من الألماس نُثرت فيه هنا وهناك بعشوائيّة .. ولم يكن هوتارو بقادر على أن يزيح بصره عن تلك الجزيرة ذات الهيبة التي تقشعّر لها الأجسام. كما لم يكن أنفه بقادر على أن يطرد تلك الرائحة المنكرة لنسيم البحر، وما كانت تحجبها عنه إلا رائحة السمك الطازج الذي إصطاده صاحبه، والتي تفوقها شدّة وبؤسا.. ورغم أنّ أذنه تُطربُ بهدوء الأجواء التي تتخللها رقرقة لطيفة للماء إثر رقص المجذاف الخشبيّ عليه إلا أنّه لم يشعر بالراحة في مجلسه، لما إنتشر على القارب من حصاة رمل وبعض الماء المتفرّق هنا وهناك..

وفوق ذلك.. كيف يشعر بالراحة ورفيقه هذا يجلس وراءه، وكيف يقدر على دخول عالمه وسط هذا الصمت المربك الذي قد يقطعه سؤال غريب من ذاك الرّفيق عن أحواله أو عن شعوره بالملل من عدمه.. أو ربما سأله إن كانت هذه النزهة تنال إعجابه أم لا.. ثم ذلك الطلب الغريب الذي طلبه منه قبل نصف ساعة، إنّه لاينفكّ يقتحم عقله من حين الى حين فيبعث في قلبه مايبعث من القلق والإضطراب وعدم الإرتياح.. إنّه ليشعر بالملل والضّيق والخنق، وقد ندم أشدّ النّدم على قبوله بهذه النّزهة الطويلة..

هاهو ذلك الطّلب يقتحم عقله مجددا وعبثا يحاول طرده..

<<هوتارو إذا أخبرتُك بالعودة فلاتعد.. ولاتسلّمني المجذاف مهما حصل.. لاتخف إن تصرّفتُ بغرابة أو غضبتُ علَيك.. المهمّ ألا تعود الى الجزيرة حتى الرّابعة صباحا.. >>

أثار هذا الطلب كما هائلا من التساءلات المكبوتة! فهل سيستلم هو مهمّة التجذيف؟ كيف ذلك وهو لم يجذّف من قبل؟ نعم قد يبدو ذلك سهلا بالنظر اليه لكنّه يدرك من خبرته أنّ الأعمال دائما تكون أصعب مما تبدو عليه.. لكن لما سيتصرف رفيقه بغرابة أو يغضب عليه؟ ثمّ لما سيأمره بالعودة؟ ولما عليه أن يرفض؟ بل كيف يسأله العودة إن لم يرغب بذلك؟

كان رأسه يدور لهذا وكانت نبضات قلبه ترتفع وأمّا ندمه على القبول بهذه النزهة الطويلة، فهو يزداد كل ما إزدادت مدّة جلوسه على هذا القارب! إنّه الآن فقط يريد العودة الى اليابسة بينما يبتعد عنها، وهذا الخجل الغبيّ يمنعه من البوح ببنت شفة..

المختارونحيث تعيش القصص. اكتشف الآن