11

7 1 0
                                    

جلست "مريم" على سريرها، تدون اسمها على الدفتر بخطٍ دقيق، تأملت حروفه المنقوشة وهي ساهمة تفكر فيه، في كلماته التي ترن في أذنيها..."انتبهي لنفسك!!!!" التفتت إلى "ليلى"، كانت جالسة على الحاسوب......  - ليلى. - نعم. (ردت دون أن تبعد ناظريها عن الشاشة). - أتعتقدين أني...أني جميلة؟ (سألت بترددٍ خجول).  التفتت إليها باستغراب وقد تفاجأت بالسؤال: - أنتِ أختي وبالطبع أراكِ جميلة. - أقصد لو لم تكوني أختي ماذا سيكون رأيكِ بي؟! - ولم كل هذه الأسئلة؟ - أرجوكِ أجيبي بصدق. - جميلة و.... - ولكن عرجاء....(أكملت فجأة بحزن). - ماذا تقولين؟! - هذه هي الحقيقة. (أكدت وهي ترسم خطوطاً في دفترها الجديد دون شعور.(  قامت "ليلى" من كرسيها، وجلست بالقرب من "مريم": - كنتُ قد نسيته، لكنّ أحدهم ذكرني به اليوم وهو مشكور. - عمّا تتحدثين؟! - عن عرجي...من يريدُ عرجاء..من يريد!!! (رددت بألم وهي تضغط بقوة على القلم الرصاص). - أنتِ جميلة وصغيرة ومتعلمة، من الأعمى الذي لا يريدك. - أقول لكِ أنا عرجاء، ألا تفهمين، يريدونها كاملة كالدمية لا نقص فيها، حين تمشي لا تقدّم رجلاً عن الأخرى، وحين تركض لاتتعثر كعجوزِ شمطاء. - لا يوجد شئ كامل في الدنيا إلا الله. ………………………… -   نهضت "ليلى" من على فراش أختها وأخذت تجول في الغرفة الضيقة وهي تشبك يديدها، سكتت لدقائق، أخذت نفساً عميقاً ثم أردفت: - خذيني مثالاً، هذا أنا أمامكِ جميلة كما تقولين ومتعلمة وأمشي بشكلٍ سليم كما تتمنين، ولازلتُ كالبيت الواقف، يقفون أمامه ليتفرجوا لكنّ أحدهم لم يتجرأ أن يدخل إليه.  التفتت إليها، إلى الحزن الذي يرزء في عينيها التي أحاطت بهما خطوط دقيقة ابتدأت في الظهور، كلٌّ لديه هم، ومن رأى هموم غيره هان عليه همّه: - سيأتي ذلك اليوم الذي سنفرحُ فيه بكِ أنا متأكدة. - متى سيأتي، عندما أدخل في الثلاثين من عمري؟! أرجوكِ كوني واقعية، كما هم يريدونها تمشي سليمة يريدونها كذلك صغيرة..صغيرة في عمر الزهور.....  وانكسر القلم "لكنّ الزهور عمرها قصير"... صمتت "مريم" ولم تعلق على حديث أختها، كانت الأخيرة قد خرجت مسرعةً ربما إلى الحمام!!  أغلقت "مريم" دفترها واستلقت على فراشها وهي تفكر فيما حدث لها اليوم، كانت عبارة "انتبهي لنفسك" تطنُّ في أذنيها بوقعٍ غريب ومتكرر، غطت نفسها جيداً فالجو بارد، بارد والشتاء قاسٍ لا يرحم، ومع هذا أحست بحرارة تدبُّ في قلبها شيئاً فشيئاً لتمنحها الدفىء في ليالٍ تبدو طويلة وقاسية جداً..  "ولكن هل تنام؟؟!!"  ========  - إلى متى؟؟ - لقد وعدني "خالد" بأنهُ سيخبر والدي بذلك.. - دائماً خالد خالد خالد..سأتزوجك أنت أم خالد؟! - لكنكِ تعرفين الظروف و....  وضعت يديها على أذنيها وهي تتأفف: - أعرف، أعرف أرجوك لا تكرر قصتك المعهودة، لقد مللتها و....مللتك.  نظر لها بإنكسار وقد غشا الحزنُ عينيه: - مللتِ مني!!  تطلعت إليه ببرود وقسوة: - مللتُ من جبنك..من خوفك الدائم من أخيك..أنا أريدُ أن أتزوج برجل أتفهم، برجل وليس بنعامة!!!!  صُعق بمكانه، وقد تلاشت كلُّ الألوانِ من وجهه: - "فرح" ماذا تقولين؟! - أقولُ الحقيقة.. (وهي ترمقهُ بإشمئزاز.( - أتقولين هذا بعد كل ما فعلتهُ من أجلك، بعد كل العذاب والهوان الذي تحملته لتكوني لي. - هيه، لاتبالغ، أنا لستُ لك وربما أعيد النظر في هذا الأمر من جديد. - أنتِ تمزحين، أليس كذلك؟!! (قالها بترجي وهو يكاد يركع).. - بل جادة كل الجد.... وابتعدت عنه، طيفها يبتعد عنه، وعودها لايكادُ يبين. - "فرح" أرجوكِ لا تقولي هكذا، إنتِ تقتليني..أرجوكِ عودي..لا تقوليها، عودي إلي، أتوسل إليكِ.  لكنها كانت قد غادرت إلى البعيد. - فرررررررررررررررررح...  فزّ من فراشه وقد تصبب العرق على جبينه.. - "كان حلماً، بل كابوساً..أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم"... أسند رأسه بيديه وقد خانته عيناه، دمعت!!! كانت دموع قهر، غيظ، دموع ذليلة.... - أأبكي أنا!!!! تعجب من نفسه....رجل وأبكي؟!  غادر فراشه، وبالرغم من قراره الإقلاع عن التدخين إلا أنهُ أشعل واحدة بعصبية، أغلق المدفأة ، كان الحر يطوقه، يكادُ يخنقه، فتح نافذة غرفته، تسلل الهواء البارد إلى جوفه، هدأت ضربات قلبه المجنونة وجفّ عرق جبينه، تمتم: - لابد أن أفعل شيئاً، لابد أن أفعل، يكفي كل هذا الذل...يكفي......  ==========  - مريم، مريم استيقظي. - هااا، ماذا تريدين؟ - نسيتي، الجامعة ستبدأ اليوم. - الجامعة!! (فزت من فراشها مذعورة) كم الساعة الآن؟!  ابتسمت لها "ليلى" بإطمئنان: - لا تخافي الساعة الآن السادسة صباحاً.  زفرت "مريم"، محاضرتها الأولى تبدأ الساعة الثامنة صباحاً..ذهبت إلى الحمام لتغتسل، ارتدت ملابسها، ثم سحبت عباءتها وحجابها من الشماعة على عجل..نظرت إلى وجهها في المرآة، عيناها حمراوتان من قلة النوم..  ذهبت إلى الصالة ولحقتها "ليلى" ليتناولا وجبة الإفطار، سكبت لنفسها كوب شاي، كم تعشق كوب الشاي بالحليب في الصباح، لذتها الوحيدة أن تشربه مع والدتها المرحومة بدون إزعاج، دون وجود طرف ثالث، هي فقط وأمها وأكواب الشاي التي تدفأهم، لحظات كانت تشعرها بالأمان والسعادة..الأمان كلمة تبدو غريبة بعض الشئ؟!!!   - ليلى، أين والدي؟ - لقد خرج ليوصل "أحمد" لمدرسته. - خرج؟!كيف؟! ومن سيأخذني للجامعة اليوم؟!  نظرت لها ليلى بإمتعاض: - اذهبي في الباص. - أنا لا أعلم في أيّ محطة يقف، ومتى..لا أدري، أنا في الحقيقة خائفة..  تطلعت لها باهتمام: - لمَ أنتِ خائفة؟  هزت رأسها بضيق: - لاأدري، من كل شئ، من الجامعة، من الفتيات، يُخيل لي أنّ الإماراتيات مغرورات وأنا لا أعرف أحداً هنا. "السمووحة منكن" - ماذا ستفعلين بغرورهن!! لا تهتمي، ركزي بدراستك وبنفسك فقط. - طيب، سأتصل لوالدي، لا أريد أن أتأخر منذ اليوم الأول. - لو كانت سيارة (البي أم) مُلكي لأوصلتكِ فيها، لكنها أمانة..(وابتسمت بشرود.(  وفي تلك اللحظة، أطلّ أبوها بوجهه المتعب: - السلام عليكم. - وعليكم السلام والرحمة. - هاا، أنتِ جاهزة؟ - أجل، جاهزة.  لم تتكلم معه طوال الطريق إلا ببضع كلمات، كانت تحترم والدها، علاقتهما تبدو رسمية بعض الشئ، علاقة بين أب وابنته لم تتجاوز المثل السائد: "إذا كبر ابنك خاويه". أخذت تتطلع إلى الشوارع من خلال النافذة، تُراقب الناس والسيارات والمحلات، وصلوا إلى الجامعة، وعاودها الخوف من جديد.  - ها قد وصلنا، بالتوفيق إن شاء الله. - مع السلامة.  وصلت، كانت الجامعة مليئة بالفتيات، كلهن يتنافسن في الأناقة والجمال، ملابس ومكياج مبالغ فيه بشكلٍ كبير..  أحست بنفسها ضائعة في هذا المكان، تائهة كورقة مجعدة ترتجف كورقة الجدول الذي تحمله بيدها، تطلعت للوجوه لعلها ترى وجهاً مألوفاً، وجهاً يدخل الطمأنينة في قلبها، يُشعرها بأنها قريبة من وطنها، لكن لا أحد، عادت لتتطلع إلى جدولها من جديد، رموزه غامضة كحياتها ربما..  وفي الجانب الآخر كانت "أمل" واقفة مع صديقاتها يثرثرن وهنّ سعيدات بلقائهن المتجدد كل عام، كانت تشعر بأنها اليوم فراشة لا تقدر أن تكبح جماح جناحيها لتطير، وجهها يفضح أشواقها يكسوه رونقاً ولمعاناً، فاليوم ستراه كما تعودت منذُ عامين، ستتعطل بينهما لغة الكلام، ويبقى حديث العيون السيد بينهما، أبلغ من كل الكلمات التي قيلت بين المحبين..  التفتت إلى حيثُ تقف "مريم" أخذت تفتشُ في ذهنها عن هذا الوجه... - أين رأيتهُ يا ربي؟!  ولكأنّ "مريم" حست بتلك العيون المحدقة بها، فرفعت عينيها لا شعورياً نحو الهدف، ابتسمت "أمل" في وجهها بإرتباك ثم لفّت وجهها، لكنها عادت لتنظر إليها مرة أخرى وقد اتسعت عيناها دهشة: - أجل، عرفتها، إنها هي..  استأذنت من صديقاتها وهي تقترب من "مريم" بخطى خجلة، "مريم" عرفتها منذُ الوهلة الأولى، المسافة التي تفصل بينهما خطوتان. - أتذكريني؟  هزت رأسها بالإيجاب "وكيف أنساكِ ألستِ أخته!!!" - لم يكن موقفاً لطيفاً للتعارف، أليس كذلك؟ - لا عليكِ، لقد نسيته..."أفعلاً نسيته؟؟". - امم، لابد أنكِ سنة أولى صح؟ - وكيف عرفتي؟ "- المكتوب مبين من عنوانه."  ضحكت "مريم" بأريحية.. - اعطني جدولك.  تناولته وهي تقرأ بصوتٍ مرتفعٍ بعض الشئ: - أنتِ تخصص علم نفس، مثلي ممتاز، اممم ستكونين معي في 3 محاضرات ياللصدف. - أخيراً وجدتُ من أعرفه هنا. - تعالي، سأعرفكِ على صديقاتي.  سحبتها معها وهي تشعر بالفرح، وسرعان ما اندمجت معهم في الحديث وسقط غطاء الخجل كما لو كانت تحادث صديقاتها بالثانوية.  =============  وقفت أمامه وهي تمسك الأوراق، تراقب الشعيرات البيضاء التي بزغت من شعره غصباً رغم عنايته بصبغه على الدوام، كان أملساً لامعاً جاءتها رغبة غريبة لتتلمسه!!! لتتحس نعومته..يا إلهي كم يلمع بطريقة غريبة، يا لزوجته المحظوظة..  رفع رأسه نحوها فجأة، ارتبكت، شعرت بالذنب لأنه ضبطها تراقبه، هذا ليس من حقها، ابتسم بإتساع فغضت بصرها وهي تحترق: - لا لا أنا لا أقدر أن أتحمل.  رفعت رأسها بتردد وهي تسأله باستغراب: - م..ما..ماذا حدث؟ - أنا لا أقدر أن أتحمل ألاّ أرى هاتين العينين الجميلتين، أهي عدسات ملونة؟  ذابت "ليلى" في مكانها كذُبالة شموع المساء، قدامها لاتكاد توقفانها، الأوراق ترتجف أم هي من ترتجف؟! - اجلسي لم أنتِ واقفة؟  جلست دون شعور، لم يكن بإستطاعتها أن تقف أكثر، وطئت رأسها وهو يتفحصها بتمعن، كانت مرتدية شالاً أحمر عكس لونه على بشرتها البيضاء الصافية، وبالرغم من لبسها للعباءة إلا أنها بدت أنيقة جداً وناعمة جداً.  - ليلى.. - آآآ...نعم. "لم أشعر بأنّ اسمي عذب قبل هذا اليوم". - هل أنتِ مرتبطة؟  رفعت وجهها غير مستوعبة سؤاله، لكنها نكسته مرةً أخرى، هي لا تقوى أن تنظر له مباشرة، كم يخطف أنفاسها!!! - أعرف أنه موضوع خاص، لكن إجابتك مهمة بالنسبة لي، كثيراً...  الكلمات اختنقت في حنجرتها، تأبى الخروج من هذا الحلق الأحمق، هزت رأسها بالنفي. تنهد بارتياح وقد التمعت عيناه: - أتقبلين الزواج مني؟  هذه المرة كادت تقع من على الكرسي، كادت أن تصرخ بنعم لكنها أمسكت نفسها.. اهدأي أيتها المجنونة، ماذا سيقول عنكِ، "متلهفة على الزواج منه!!". - تعلمين أنني متزوج ولديّ أطفال، لكنني لستُ سعيداً في حياتي الخاصة، صدقيني منذُ رأيتك عرفت أنكِ الفتاة التي انتظرها قلبي لتملكه، لتتربع في حناياه..  لحظات وتتحول "ليلى" إلى سائل، إلى هشيم، هي رومانسية حالمة بطبعها، فما بالك وهي تجد من يقول لها مثل الكلام الذي تقرأه في رواياتها..  - أريدكِ هنا في مكتبي وهنا - وأشار إلى صدره- في سويداء قلبي، أريدكِ معي في كل مكان..  غاص قلبها وبات لون وجهها يفوق لون شالها في إحمراره، لم تنبس ببنت شفة، لازالت مطرقة. - ما قولك ياااا حبيبتي!!! تنفست بعمق، بأقصى ما استطاعت أن تسحبه رئتيها من هذا الهواء الحار المحبوس في المكتب.  - يمكنك أن تزور والدي. - لماذا؟  تطلعت إليه بغباء: - ألم تقل أنك تريد الزواج مني!! - بلى، ولكن ليس الزواج الذي تظنين.. - ماذا تقصد؟ - أقصد أن نتزوج....عرفياً. - ماذا؟؟  صاحت في وجهه وهي تقوم من على الكرسي وقد تحطمت كل الأحلام الوردية التي كانت تتراقص أمام عينيها منذُ قليل. - أرجوكِ اهدأي. - ماذا تعتقدني، لقيطة، مشردة، ليس لدي أهل، ينقصني شئ كي أتزوج عرفياً؟؟! - ليس الموضوع هكذا، والله يعلم أني لا أقصد أن أقلل منكِ شيئاً فأنتِ غالية بالنسبة لي، لكنها الظروف، الظروف الحالية هي من تحتم عليّ ذلك. - أيّ ظروفٍ هذه؟ - زوجتي مثلاً..أطفالي..لا بد أن أهيأهم لزواجي الثاني. - إذن ننتظر إلى أن تتحسن ظروفك. - إلى متى...أقصد أنا لا أقوى على الانتظار وأنتِ أمام عيني، وأعتقد أنكِ تبادليني نفس المشاعر صح؟  لم ترد عليه، كان فكرها حائراً ما بين عقلها وقلبها، قلبها الذي يحنُّ إليه وعقلها الذي يستصرخ "لا تتهوري!"  اقترب منها وهي شاردة الذهن، وبصوتٍ ملئ بالحب، بالعتاب، بالتعاطف قال: - لا أريدك أن تتعجلي في ردك، ولكن كل ما أرجوه ألا تهدمي حلمي، أن أكون معكِ طوال العمر هو جلُّ ما أتمنى.  خرجت وهي ترتجف من الحنق، ألقت الأوراق التي بيدها على مكتبها، وضعت يديها أسفل ذقنها، لم لا تنتهي الأحلام نهاية سعيدة؟!!  ============  خرجت "مريم" و"سلمى" معاً من المحاضرة الأخيرة، تباطئت "أمل" خلفهما متعمدة وهي تلتفت كل حين للواقف خلفها، يرمقها بتلك النظرات الولهة التي اعتادت عليها وباتت تحن لها، آه متى تنطق وتقولها، عامان وأنا انتظر؟! الممر الآن شبه خال، لم لا تغتنم هذه الفرصة قبل أن تضيع، انطقها ولن تندم..  "لكنه لم ينطق، كم يغيظني". عادت مريم وسلمى إلى الممر مرةً أخرى يستعجلانها في المشي، لحقتهما وهي تشتم حظها النحس في سرها. - أتعرفان أي تقف محطة الباصات. - لم؟! سألت "سلمى" باهتمام. - كي أركبه وأطير للمنزل طبعاً، فأنا أكاد أموت من الجوع. - ولم ترجعين في الباص، سأوصلكِ معي إلى البيت. قالت "أمل". - كلا، لا أريد أن أثقل عليكِ. - بيتكم لا يبعد عن بيتنا إلا بخطوات، ستعودين معي دون نقاش، على الأقل أجد من أحدثه في طريق العودة بدلاً من الجلوس بصمت مع السائق. - طيب سأتركم الآن، والدي ينتظرني، مع السلامة. - مع السلامة. (ردت كلتا الفتاتين.(  سارتا معاً وهما تتحدثان في أمور شتى..البنات..المحاضرة..الدكتور. - اعطني رقم جوالك.  تبادلتا أرقام الهواتف لتبدآ صفحة جديدة من الصداقة بينهما، لمحت "أمل" سيارتهم المرسيدس السوداء، حتى زجاج نافذة السيارة لونه أسود داكن. جرّت "مريم" معها، كانت الأخيرة تمشي بإستحياء، لا تحب أن تكون ثقيلة على أحد. ورغم دكونة الزجاج إلا أنّ "خالد" ميزها، عقد حاجبيه بتعجب لكونها مع أخته.."غريبة" هكذا ردد في نفسه، لكنهُ ما لبث أن ابتسم، "يا للصدف!" وأتته فكرة..  دفعت"أمل" مريم لتدخل أولاً خلف السائق، وحين دارت لتذهب للجانب الآخر أقفل "خالد" أبواب سيارته آلياً دون أن تلتفت "مريم" لما يجري، كانت تتصفح خطط مقرراتها الدراسية بإهتمام، أمسكت "أمل" إكرة الباب المقابل لأمل لكنه لم يُفتح، انتبهت "مريم" لحركتها فرفعت رأسها. - "رفيق" افتح ال... وإذا بها تلتقي بعيناه من خلال مرآة السيارة، صُدمت، بل صعقت مشدوهة، نظر لها مباشرة وبقوة وقد انحرفت زاوية فمه في شبه ابتسامة..  - حلوة كلمة "رفيق"!!!  تعجبت "أمل" من السكون المخيم على الموجودين بالداخل، لا توجد أية حركة، دقت على زجاج المقعد المجاور للسائق، فتح النافذة. - هيا ادخلي بسرعة. (شهقت في مكانها.( - من؟ خالد؟!  ضغط على الزر فدخلت وسيل من الأسئلة يسبقها فخالد ليس من عادته أن يأخذها من الجامعة. - زوجة السائق أنجبت صبياً وقد أعطيته اليوم إجازة.  "يا للمشاعر المرهفة" رددت "مريم" في نفسها بتهكم. أكمل: - لذا لا تعتقدي أني جئتُ من أجل سواد عينيك، مع أنّ هناك عيون تستحق الإتيان من أجلها!!! لم تعبأ أمل بفظاظته فقد اعتادت عليها، سقطت عيناهُ عليها من جديد وهو يغمز لها..طأطأت رأسها، أكان يقصدها، يا للوقاحة يا لقلة الأدب، شعرت بالغيظ - أ...أمل. - نعم. (التفتت لها بجذعها.( - قولي له أن يفتح الباب. (نظر إليها وقد تغضن جبينه بعبوس). - لماذا؟ "أتسألين بعد كل ما حدث؟!"  - أنا لا أركب مع...مع هذه ال..الأشكال.  فغرت "أمل" فاهها وهي تنظر لأخيها الذي أسودّ وجهه فجأة، دار لها ففزعت في مكانها، وضعت يدها على فمها لكأنها انتبهت لخطورة كلماتها ، لكنه لم يمهلها شدّ يدها بقوة حتى كاد أن يسحق معصمها. - هذه الأشكال؟؟ ها ماذا تقصدين، ألا يعجبكِ شكلي؟!  وأكمل وهو يسحبها للأمام ويقرب وجهها حتى كادت أرنبة أنفه تلامس وجهها. - انظري لي، ألا ترين جيداً، ربما هكذا أفضل..   وقعت أنفاسه الغاضبة عليها، لامست بشرتها، كانت قريبة منه بشكلٍ فظيع، لم تقوى على النظر إليه، كانت ترتجف وهي تحاول التملص من قبضة يده وقلبها يغوص إلى القاع، إلى آخر نقطة... - آآه، اب..ابتعد عني..يدي... - خالد دع الفتاة، هذا عيب، لقد آلمتها.  تعبت "أمل" من الصياح لكن دون جدوى. لازال يشدها، يحاول أن يجبر عينيها على النظر إليه لكن هيهات، كان وجهها متضرجاً بحمرة قانية، أبسبب الألم أو الخجل لا يدري...  قربه يحرقها، يحيلها إلى هشيم، وأنفاسه المتلاحقة تكادُ تصيبها بالجنون، مشاعر متضاربة في صدرها لا تستطيع أن تفسرها، غضب..كره..ألم أم ماذا؟؟  طفرت الدموعُ من عينيها، بللت أهدابها، برقت كنجوم سماوية رغم أنهم في عزّ الظهيرة!! رأى تلك النجوم، فأرخى يده لكنه لم يترك معصمها بعد، سحبت يدها بسرعة منه وصدرها يعلو ويهبط، ضمتها إليها، وهي تتلمسها بيدها الأخرى، عيناها لا زالتا مسبلتان وتلك النجوم تُنذر بالسقوط... عاد إلى موضعه دون أن يعلق أو....يعتذر، خيم الصمت على الجميع لكأنّ على رؤوسهم الطير، لم يُسمع إلا صوت أنفاسهم المتلاحقة!!  تطلعت إلى معصمها، إلى آثار أصابعه المطبوعة، لقد سحقها، كانت ترتجف، شدتها بقوة لتوقف ارتجافها دون جدوى، حواسها لا تطيعها، تأبى أن تمنحها بعض السكون والأمان....  - افتحوا الباب، أريد أن أعود للبيت. (صاحت بصوتٍ متباكٍ). تطلعت لها أمل بتعاطف، خجلة من تصرف أخيها: - وكيف ستذهبين؟ - في الباص. - ربما تحركت الباصات الآن. - سأتصل بأبي ليأخذني، لا أريد أن أبقى هنا..لا أريد.   حينها غطت "مريم" وجهها وأجهشت بالبكاء وهي تشهق. التفتت أمل لأخيها لكن لا حياة لمن تنادي، كان وجهه جامداً كالصخر لا تعبير فيه.  لم تسمع رداً رفعت رأسها وهي تمسح الدموع المبللة وجهها بتصميم "لن أكون ضعيفة، لن أكون دمية يحركها هذا الأحمق المغرور"، كان يراقبها وقد كست وجهه مسحة تأثر لكنه مسحها فوراً، صاحت بغضب وبصوتٍ متقطع: - أنت.. أنت... افتح الباب وإلا وإلا.... - وإلا ماذا؟! (سألها ببرود.( - وإلا سأصرخ وأفضحك بين الناس كلهم...  هزّ "خالد" رأسه باستهزاء، وهو يحرك مفتاح السيارة، ويضغط على الكابح بقوة، حتى ارتجت السيارة بهم بقوة، سرعته كانت جنونية، خافت "مريم" بل كاد قلبها يقع، لكنها توقفت عن البكاء وابتدأ هرمون "الأدرينالين" بالعمل.  - خالد، هدأ من سرعتك... - قولي لصديقتك أن تطبق لسانها أولاً، وتحتفظ بتهديداتها لنفسها.  لم ترد "مريم"، كانت تمسح تلك الدموع الحادرة على وجهها بصمت.."أيّ رجلٍ هذا؟ أهو من البشر حقاً؟! كم أهانها..كم ذلها واليوم مدّ يدهُ عليها وهي صامتة لا تقوى على الدفاع عن نفسها، لم خُلقنا ضعفاء!!".  ضغطت أمل على زر الراديو لعلها تهدأ الجو المتوتر داخل السيارة، كان الموضوع الإذاعي يدور حول حقوق المرأة وكيف حافظ الإسلام على كرامتها ومنحها المكانة الرفيعة دون كل الأديان.  "هه، الدين وصى ولكن المسلمون في خبر كان، لو كان الدين يُطبق لما وصلنا إلى ما نحنُ فيه الآن، لما تدهورت القيم والأخلاقيات، ولما تأخرنا وتقدم غيرنا..خذوا هذا المتعجرف عديم الأخلاق مثالاً، ها هو يصفّر وكأن شيئاً لم يكن..من أيّ طينةٍ خُلق؟!!"  دار كل هذا في رأسها، دموعها جفت، كم وعدت نفسها ألا تبكي، لكنها تعود دوماً للبكاء..أغلق الإذاعة..يبدو أنّ الموضوع لم يعجبه..عدو المرأة هذا.. بدأت معدتها في التقلب، وأخذت تصدرُ أصواتاً واضحة من شدة الجوع، شعرت بالحرج لا بد أنّ الكل سمع!! ياللفضيحة...أرجوكِ اصمتي قليلاً إلى أن أعود..شعرت بتلك العيون تراقبها، لابد أنه يبتسم، أو ربما يضحك عليها، يا رب متى أصل..أشعر بالإختناق.  اقتربوا من مطعم "جسميز" ازدردت ريقها، فهي لم تشرب إلا كوب شاي!!! انتهى دور "الأدرينالين" وابتدأ انزيم "الأمايليز". تلوت معدتها وأصدرت أصواتاً أقوى.   - "أمل" أتريدين شيئاً من هارديز، سأشتري لي وجبة غذاء.  اختفت كل الألوان من وجهها، نست الألم..الكره..الغضب الذي يعتمل في صدرها نحوه منذ قليل..شعور الحرج هو من طغى عليها تلك اللحظة، لا بد أنه تأكد من جوعها. - اشتري لي مثلك. - اسأليها إذا تريدُ شيئاً. (خاطب أخته.( - لا أريدُ شيئاً...منك.  غادر السيارة وهو يصفع الباب خلفه بقوة أخافتها." طلعة بلا..ردة".  - لا أدري ماذا أقول لكِ..أعتذر عن كل ما بدر منه.  رددت أمل بخجل دون أن تقوى على النظر في وجه صاحبتها. - لا عليكِ..أنتِ لا ذنب لكِ.  مرت 5 دقائق، عاد وهو يحمل 3 أكياس، أعطى كيسان لأمل وأشار إلى الخلف. ترددت "إنها لا شك سترفض". - "مريم" خذي.  أدارت "مريم" وجهها للجهة الأخرى وهي تزمُّ شفتيها. أعادت الكيس إلى حجرها. - قولي لها أنهُ ليس من أجلها بل لكي ترحمنا من تلك الأصوات المزعجة. "- خالد"!!. - لقد رأيتُ في حياتي أصنافاً كثيرة من البشر لكنني لم أرى أوقح منك أبداً. - اها، "أمل" قولي لها اذا لم تصمت سأعيد ما حدث منذُ قليل... إذا كان يعجبها ذلك. "- خالد" أنت من بدأت أولاً. - صه، اسكتي أنتِ، لديها لسان تدافعُ به عن نفسها.  عضت على شفتيها بغيظ حتى كادت تدميها "يُعجبني ذلك؟!!! يا إلهي أمدني بالصبر". إنهُ يحاول أن يستفزها، تعرف ذلك، اصبر، اصبر عليّ قليلاً وأنتِ يا مريم تمالكي نفسك، لم يبقى على العودة إلا القليل.  وصلوا، أشارت "أمل" إلى منزلهم، أوقف مكابح سيارته فجأة، فارتطمت "مريم" بكرسيه...شتمتهُ في سره بكل الألفاظ التي سمعتها منذُ ولادتها...لقد تعمد ذلك.  أطلق زر الباب، فتحته وهي تجر نفسها والغيظ يطحنها، يفتتها إلى قطع صغيرة. اسندت قدميها المرتجفتين على الأرض، لم تتحرك، اقتربت من نافذته، طرقتها بعصبية، فتحها وهو يبتسم بوقاحة: - نعم آنسة، أنسيتِ شيئاً، تريدين كيس الطعام، لا تخجلي قوليها. "هل اقتربت يوماً من الذروة؟!!!"  - أنت رجل حقيييييييييييييييير. وضيييييييييييييييييييع. تاااااااااااااااااااااااااااااافه.  حرك يده ليفتح باب السيارة لكنها لم تنتظر، ركضت مسرعة إلى البيت حتى كادت أن تتعثر، أغلقت الباب خلفها بالمزلاج وهي تستند عليه ورأسها يطن..اصاخت السمع لم يلحق بها ذلك المعتوه، ما دامت في بيتها فهي في أمان منه...أمان؟!! كلمة لا أفتأ أن أذكرها هذه الأيام....  أما "خالد" فقد انفجر ضاحكاً من شكلها المذعور، فقد ركضت كالمجنونة وكأن وحشاً يلاحقها، أدار مقود سيارته وعاد مع أخته العابسة وكلما تذكرها ضحك حتى أدمعت عيناه وهدأ!!!!!!!!

***منقوله

ضلالات الحب حيث تعيش القصص. اكتشف الآن