20

6 1 0
                                    

قدماها لازالتا تتراقصان من الخوف، تنفست بقوة وهي تستند بضعف على الباب، غطت وجهها بيدها اليسرى لعلها تُبعد صورته، لمسته، همسته التي لا تفتأ تدوي في أذنيها بطنين مجنون..  أكملت وهي تجر نفسها لعلها تصل إلى غرفتها، توقفت هنيهة وغصة في الداخل تمزقها تمزيقاً، أحنت رأسها وهي تمسك بعنقها وتعود لتقبض على صدغها ورغبة بالغثيان تعتريها كل حين....  رنت ضحكة ماجنة في الغرفة المقابلة، اعتدلت في وقفتها تصيغ السمع، كل ما تراه يبدو هلامياً، غير حقيقي، هل أنا أنا وهل نحنُ نحن؟!!  "في أي عالمٍ نعيش..أخبروني؟!!"  فتحت الباب دون أن تطرقه، كانت مستلقية وهي تعبث بخصلةٍ ناشزة من شعرها ويدها الأخرى ممسكة بالجوال..  رفعت "ليلى" وجهها للقادمة وكأنها آتية من سفرٍ بعيد، تراتيل الرحيل أزفت، رسمت سطورها في حنايا الوجه النحيل، في العينين ذبول وعتاب، عتاب طويل بطول الليل، بطول أروقة العذاب ومتاهات الزمن....  أخ ما أقسى الزمن.....  أغلقت "ليلى" هاتفها، وهي تنظر بخوف وقلق لأختها، لازالت تنظر إليها بألم، أما تراه الآن دموع تهطل من عينيها السوداوين؟!!!   اقتربت منها والأخيرة تصارع لتقف بإعتدال وقدميها تخوناها، لا تفتأ أن تنثني والرغبة بالتقيؤ تتزايد كألسنة اللهب، لتحرق كل شئ، كل شئ.....  لمست "ليلى" كتفها فأجفلت، رفعت رأسها وهي تنظر لها بشزر، أبعدت يدها عنها وهي تصرخ بصوتٍ مبحوح عُيّل من كثرة الصراخ: - لا تلمسيني..  رفعت "ليلى" حاجبيها دهشةً، أكملت ويدها تقبض على عنقها من جديد: - قذرة مثلك تصيبني بالنجاسة. !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!-   ارتفع صدرها بقوة مرةً واحدة وتوقف، آلاف الكلمات تتصاعد في جوفها، لاتعرف ما تختار والأخيرة تنظر لها دون أن تستوعب شيئاً.  - لم أتوقعك بهذه الحقارة أبداً، أيتها...أيتها ال...  واحتقن وجهها من جديد، شدت حجابها بعنف وألقته، صدت لأختها التي كانت تتراجع إلى الوراء.....  كان وجهها ممتقعاً هي الأخرى، قالت بإنكسار وأطياف الحزن تتجمع من جديد لتخدش ما بقى في الصورة من لمعان: - لماذا؟! لماذا؟! لماذا قولي لي...أجيبيني لماذا؟! أنتِ أنت يا بنت أمي أنتِ!!  ولطمت وجهها لعلها تفيق من هذا الكابوس، لعلها كانت تحلم وكل ما حدث هو من وحي الخيال فقط، فقط يا ليت.  بدأت حبات العقد تنفرط، تدحرجت إلى آخر بقعة، هناك في الزاوية....  تطلعت "ليلى" حولها بعين زائغة وقلبٍ راجف...أتراها عرفت؟! كيف؟!!  - ساقطة...ساقطة.. قال ساقطة...  هزت رأسها وهي تردد بهمس ذاهل وتُحرك أصابعها النحيلة في الهواء، وضعتهم على فمها المرتعش وهي تكررها بهمس دون تصديق، نظرت "للساقطة" وكأن مرآها أفاقها من ذهولها، تغضن وجهها وهي تنظر لها بقرف: - كل شئ توقعته منكِ إلا هذا إلا هذا، لم لا تتكلمين ها؟! أم أن السفالة عقدت لسانك أيتها الفاسدة الحقيرة، أنت عار، كومة عار... ……………………-  - منذُ متى أجيبي؟! منذُ متى؟! لم تحترمي حتى أبي في قبره، لا سامحكِ الله لا سامحكِ لا سامحكِ الله.   ونشجت دون توقف كسيلٍ فوار ولكن في بركةٍ آسنة لا قرار لها...  ……………………..- - ماذا فعلتِ بنا أنا وأحمد..سودتِ وجوهنا، ألم يكفنا "محمد" لتكملي أنتِ؟؟!  الأظافر تخربش ذلك الجيد دون شعور، تسللت خطوط وردية بان سناها على صفحة الجلد الأبيض، تقدمت منها "ليلى" بوجل لتوقف عويلها، وما أن أمسكت يدها حتى أتحفتها بصفعة قوية على وجهها أودعت فيها تلك اللحظات، تلك الكلمات، ذلك الذل الذي عاشته بسببه وسببها..  تردد صدى الصفعة في أرجاء الحجرة الخالية من عروشها، وضعت باطن كفها على خدها وهي منكسة رأسها وعضلة صغيرة أسفل فمها تنبض بوضوح....  تطلعت "مريم" إلى يدها التي تهتز بتعجب وكأنها انتبهت أنها الصغرى وتلك أختها الكبرى، صدت لليلى، كانت تشهق بصوتٍ كتوم، لكن قلبها أقسى من أن يتأثر بدموعها..  ماذا بعد ذلك؟! لاشئ يهم..لاشئ...  - تبكين؟! الآن تبكين بعد فعلتك السوداء، مثلك لا يبكي، مثلكِ إن كان فيه ذرة دم، ذرة حياء باقية، يدفن نفسه..  تصاعدت شهقاتها هذه المرة بقوة، بصوتٍ مسموع، لم تبالي بها، لو بيدها لقتلتها، لاقتلعت وجودها للأبد، ألم تكن قاب قوسين أو أدنى من الهلاك بسببها، كان سيدمرها وتضيع في زمن لا يرحم، في زمن يوصد بابه للأبرياء ويفتح ذراعيه للقذرين أمثال تلك ال...  وعادت لها الذكرى المشؤومة، الصور لاتلبث أن تتراقص أمام عينيها، وطيفه الكريه يحيط بها، يُضيق الخناق عليها، لا تصدق أنهُ تركها، حياتها كانت ستنقلب على عقبيها، ستتدمر، كيف أحبته يوماً، ذلك الحقير..ّذلك القذر وهذه القذرة يناسبان بعضهما تماماً!!!!  تطلعت لها بإشمئزاز وكأنها تقيم بعوضة، لا أكثر أو أقل....  رفعت رأسها وهي تجهش بالبكاء، تنظر إليها بذنب، كتلميذة صغيرة تنتظر الرأفة بالحكم عليها، الرأفة فقط لا إلغاء القضاء..  :- مريم" أنا... - اخرسي، لاتنطقي اسمي على لسانك القذر أبداً. - أسمعيني أرجوكِ. - أسمعُ ماذا؟ أسمع دناءتك؟ - أنا كنتُ متزوجة و....  وتوقفت "مريم" عن الحركة، جمدت في مكانها وقد أخرستها المفاجأة.  - تزوجتِ؟!! - أجل من "أبو محمد". - تزوجته؟!! تساءلت بذهول. - أجل تزوجته..ع..عرفياً. - عرفياً؟! منذُ متى؟ - منذُ...لا يهم. …………………-  - مريم هو ......  قاطعتها وكأنها تخاطب نفسها: - متزوجة وساقطة!! كيف!! ؟!  انتحبت "ليلى" وهي تصرخ: - أرجوكِ لا تقوليها، لا تقوليها، أقبلها من الكل إلا منكِ. - ساقطة ساقطة ساقطة.   كررتها وهي تصرخ بلارحمة، كانت تتقرح من الداخل، وخزات تنشبُ في صدرها، تدمي ذلك القلب الذي توسّد بين الضلوع...  تهاوت "ليلى" وهي تضرب على ركبتيها، وقد فرشت لها من الأرض دثاراً تنوح عليه، تنوح على ما آلت إليه حياتها، في السر نحنُ أفضل بكثير، لكن الأيام لا تخبئ أحداً، لا تخبئ أحداً أبداً....  - ماذا كان ينقصك حتى تسلكي هذا الطريق، أفهميني يا بنت أمي أفهميني؟!  قالت قليلاً وبكت كثيراً، تصمت لتمسح وجهها الذي أغرقه الدموع، وتلك الواقفة تسمع ولا تسمع....  الوحدة، الفقر، والحب..ثلاثي البؤس!!!  كانت تردد اسم "ٍسلمان" بذهول السكران، وكأنهُ السبب في كل ما حدث!! وتلك تحدجها بنظرات تتماوج بين الرثاء والكره!! والأخيرة تتمسح بأقدامها تطلب منها أن تفهمها، أن تقدر أسبابها، و"مريم" جامدة كصخرة..  لا تنحتي، ما عاد يُجدي النحت....  - كل هذا لا يشفع لكِ أبداً، أبداً، أتعرفين لماذا؟؟  نشجت "ليلى" من جديد وهي تتكور على نفسها.  - أسأليني لماذا؟! صرخت بحشرجة. ……………………-  - لأنكِ ساقطة منذُ الأساس...  وارتفع صوت صياحها ليقطع سكون الفضاء، تأملتها "مريم" لدقائق ثم سحبت حقيبتها المُلقاة، ودثارها وشرعت لتخرج، انتهبت "ليلى" لحركتها، رفعت رأسها بذل وبعينين ذاويتين سألت: - أين ستذهبين؟ - إلى جهنم، في أي مكان لا يحوي القذرين مثلك.  وصفقت الباب خلفها، ارتمت وجسدها يهتز بعنف، يرتج مع شهقاتها التي تلجم أنفاسها....  الليل طويل، وقد مدّ دثاره ليغطي على الجميع، ليُغلف خفايا الأنفس، يحجبها عن الآخرين، يحجب سوءاتهم، ولكن الأيام تأبى ذلك، لأنها ببساطة ترفض أن تخبئ أحداً، وقد حان الوقت لإقصاء كل شئ، كل شئ ما عدا الحقيقة!!!!!  =================  يمشي ببطء ويتوقف ليمسك سياج المزرعة بقوة لكأنهُ يودّ تحطيمه، أبعد ذراعيه وضمهما إلى صدره، ذهنه شارد بالراحلة منذُ قليل، حين تركها توارى في المزرعة، راقبها وهي تتلفت خلفها برعب كل حين، أدمتهُ تلك الحركة، وحين سقطت على الأرض هوى قلبه إلى الأعماق، كاد أن يهرع لها لينهضها لكنهُ أمسك نفسه..  بقت على هذه الحالة لفترة طويلة خالها دهراً، كانت تلم نفسها بعجز وهي تغطي وجهها بكفيها وتبكي...  ماذا فعلت يا "خالد" ماذا فعلت؟!  نهضت، ارتحلت مع جُنة الليل، تلاشى خيالها النحيل بين عينيه، بدا كنقطة بعيدة تنبضُ من بعيد....  نظر إلى السماء وهو يتنهد....  كانت قريبة منك يا "خالد" قريبة إلى حد الجنون!! أمسكتها بيديك هاتين، كادت تتحطم عظامها الرقيقة بقبضتك، شممت رائحة شعرها، شعرها كان النقطة القاضية، كاد يقصمك، وتضيع هي إلى الأبد، إلى الأبد..  ماذا كنت ستفعل يا "خالد"، ماذا كنت ستفعل؟!  تأمل يديه، لازال يشعر بجسدها بين راحتيه، كانت ترتجف وهي تحاول أن تتملص منك، بكت وتوسلت لكن ذلك لم يزدك إلا إصراراً، نشوة الصياد في أن يرى فريسته تتعذب أمام عينيه...  لم تركتها إذن؟! أجب نفسك بصدق....  ربما لأنها ذكرت اسم أخيها "أحمد"، لا تنكر أنك تحبه، أليس يحمل من روحها الشئ الكثير، يحمل براءتها وشقاوتها، في عينيه الصغيرتين تتجسد صورتها، صورتها التي باتت لا تفارق مخيلتك يا "خالد" كيف ستنتزعها الآن، كيف؟!!  كلا كلا ليس هذا فقط، بل لأنها قالت شيئاً آخر، قالت أنها لن تعود، يا تُرى ماذا كانت تقصد؟! لم أفهمها تلك اللحظة، لكنني شعرت بخوفٍ فظيع، خفتُ أن أفقدها، خفت أن تضيع، وأنت ماذا كنت ستفعل بها غير ذلك؟!  كل هذا بسببك يا "فيصل" أنت ومفاتيحك اللعينة، أنت من أدخلت أفكارك القذرة في ذهني، جعلتني أخالها لقمة سائغة مثل أختها ربما..  ولكن هل يرقى الثرى مع الثُريا؟!!  لا أبداً....  يا تُرى ماذا تفعل الآن..كيف هي حالتها؟!!  عاد ليتأمل يديه من جديد، ضمها إلى صدره بقوة وصورتها تتجمع بين عينيه من جديد....  أأنت نادم يا "خالد" على ما فعلتهُ بها؟! . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .  لم أسمع، فقد همس للنجوم بالإجابة!! وأين نحنُ وأين النجوم....  ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه ودلف للبيت، مرّ على غرفة الجلوس، توقف أمام الباب برهة لكأنه خشى أن يفتحه فيلوح له طيفها الذي عذبه، حينها لن يتركها أبداً، لن يتركها!!!!  أكمل طريقه لغرفته لعله يجد في عينيه طريقاً إلى النوم...  ماذا كنت ستفعل يا "خالد" ماذا كنت ستفعل؟!!  =============  قلوبٌ تتلوى، والعين تأبى أن يفارقها السُهاد..... بين الضلوع أُمنية وفي المحجرين دمعة.... آهات متقطعة، متكسرة، تجتاح أروقة أبطالنا... تنثر الشوك والورود في كل مكان.... مريم..خالد...ليلى... والبقية تأتي.....  يا ربُّ أنت الراحم الغفورُ وما جرى في جبعتي محفورُ كان الفراقُ عاصفاً وخافقي مولاي في عصف النوى عصفورُ فاجعل جميل الصبر لي مرافقاً كي لا يضل خطوتي النفورُ

***

ضلالات الحب حيث تعيش القصص. اكتشف الآن