24

4 1 0
                                    

يا رب ما لمحنتي إلاًّك وما بقيتُ واقفاً لولاك  إن لم تمدني برحمةٍ فلن أقدر أن أقاوم الهلاك  لي ضعفُ إنسانٍ وبي عيوبهُ فأنت ما خلقتني ملاكا....  "ذكراك ما فارقت يوماً مُخيلتي وكنتُ أحسبُ أنّ الجرح مندملٌ وأني بمرور الوقت أنساك..."
الجزء [9] من قصة ضلالات الحب     الجزء الأخير أخذ يجوب الشوارع دون هُدى، غارقاً في حلكة الليل، بدا الهلال في السماء قارباً تائه في لُجة لا متناهية من الظُلمات..  الليل طويل، طويل، آهاته تتصاعد، تحلّق حوله، تكاد تُخنقه، تُضيق الخناق عليه....  تقيأت!!!  عندما رأتك تقيأت!!  ماذا فعلت يا "خالد" ماذا فعلت؟!  لم تعد رؤيتك تثير الخجل المحبب لديها، بل تُثير الغثيان...  أهذا ما تحولت إليه يا "خالد"؟!  شئ يُثير الغثيان!!!  كلا كلا....  ستنسى...ستنسى، كل ما فعلتهُ لها...  سأنسيها لأني أحبها وهي تُحبني...  أجل تُحبني..  لا تنظروا إليّ هكذا..  تُحبني مهما حاولت، مهما أنكرت...  لم تقلها يوماً لكن آياتها كانت تلوح في وجهها كلما تلاقينا..  أقول لكم تحبني هكذا رغماً عنها...  تُحبني وكفى...  لذا ستسامحني عن طيب خاطر، وإن لم تفعل أجبرتها...  أجل سأجبرها، لن أعدم أي وسيلة...  هي لي وأنا لها وكل ما حدث سابقاً سننساه ونفتح صفحة جديدة....  أنا وهي وأحمد...  وابننا "فيصل"!!!!!  سننجب فيصل آخر..  كفّوا عن النظر إليّ هكذا كمعتوه...  لا تعتقدوا أنّ موت صاحبي أصابني بلوثة....  أنا لا أهذي....  كل ما أقوله حقيقة وأنتم سراب..سراب....  يا ليت آمالي ليست مثلكم....  يا ليتها كالنجوم!!!!  "مريم"......  بالله عليكِ أخبريني ماذا تفعلين هناك....  بالله عليكِ سامحيني وانسي.....  يا ليتكِ تنسين.............   لازال الليلُ حالكاً، غارقاً بظلمته، والهلال يُبحر، والسفر طويل طويل... وتراتيل الرحيل أزفت...... باقي من الزمن ساعة، أليس كذلك؟!  الأحلام تتناثر بكل مكان كزهور الربيع....  وهناك، بالمستشفى، على ملاءة بيضاء كانت ترقد، تغفو من عناءٍ طويل، بحقنة مُخدّر....  أناملها الشاحبة أحتوتها أصابع صغيرة، أصابع ترتجف....  يبكي بصمت، بهدوء كي لا يُقلق نوم أخته....  تلك الأم، تلك الأب، تلك الأخت، تلك كانت كل شئ بحياته....  في نبضها الضعيف تتعلق روحه، تسري دماءه، ومعها يتقاسم...  بداياته ونهاياته وذكرى الوطن.....  أحاط الأنامل، شدها بقوة كسياج، ورقد بجوارها....  لن يتركها لا اليوم ولا غداً ولا بعد مائة سنة....  وهوت نجمة، أفَلت، تقدّم للأرض زاداً آخر....  تُقصي الليل، وتتيح المجال للصبح ليبلج...  أليس الصبحُ بقريب!!!!  ================  جلست في الكافتيريا تنظر للفتيات بشرود، تطلعت لساعتها برهة ثم عادت لتتصفح الوجوه، لمحت صاحبتها قادمة وعلى الشفتين ابتسامة، بادلتها ابتسامة باهتة، جرّت لها هذه الأخيرة كرسياً وجلست مقابلها.  - ما بالك؟! - لاشئ. - تبدين واجمة..  تنهدت "أمل" بضيق وهي تُدّلك جبهتها.. - إنها "مريم" لو ترينها...لو ترين ما آلت إليه....  لم تُكمل، انتابتها غصة، أصابعها تتشابك لكأنها في حالة صراع....  - مسكينة.. ردّت سلمى. - ألم تزوريها؟! - أنا كلا.  ثم أردفت وهي تُخرج هاتفها وتعبث بأزراره الملساء. - أمي قالت لي أن أقطع صلتي بها، حتى رقمها جعلتني أمسحه من هاتفي..  فكّت "أمل" أصابعها المتشابكة وهي تنظر لصاحبتها بإستغراب. - وهل فعلتها؟!  هزت رأسها إيجاباً، خائفة من إنفعال صديقتها.  - لماذا فعلتِ هكذا، إنها بحاجة لنا، بأمس الحاجة لوقفنا معها ونخذلها؟! - تريدين أن أعصي والدتي من أجلها؟! ………………………………-  - ثم، ثم والدتي محقة، مالي وهي، لا أريد أن تخترب أخلاقي..  شهقت "أمل" بقوة، جعلت الفتيات اللاتي بالقرب منهما يلتفتن حولهما بفضول، تطلعت "سلمى" بإرتباك لصديقتها لتشير لها بأن تهدأ.  كان وجهها محتقناً من الغضب، من الغيظ بما تفوهت به صديقتها، صديقتها؟! مثلها لا تستحق كلمة صديق، مثلها بوجهين نسميها ماذا؟! منافقة..أجل منافقة..  "- مريم" ستُخرب أخلاقك؟! "مريم" تلك النسمة الطاهرة ستُفسدك؟! ما توقعتك هكذا يا سلمى، تطعنيها في شرفها..ما توقعتكِ هكذا أبداً..أبداً....إذا أنتِ من تعرفينها تقولين هكذا ماذا سيقول الآخرون؟!  بان الذنب على وجهها، لكأنها خجلت من نفسها، من كلماتها السوداء!!!!  حلّ الصمتُ الآثم حول المكان، الرأس تنحني شيئاً فشيئاً، ماذا عن الروح عندما تقع، تهوي إلى أسفل سافلين!!  أرادت "سلمى" أن تُلطف الجو المكهرب، أن تغير الموضوع، ابتسمت بتملق وهي تحكُ أنفها بتوتر: - لم تباركي لي.. - بماذا؟! سألتها ببرود دون أن تتطلع حتى في وجهها والنفور منها يزداد. - سأتزوج قريباً.  حينها رفعت بصرها إليها وهي تقول بلامبالاة: - مبروك.  عادت "سلمى" لتبتسم من جديد ولكن بحياء: - لم تسأليني من هو؟!  سألتها بلامبالاة والهوة بينهما تزداد، تمتد بطول الكذبة، بطول الزيف، بطول الضلالات!!!! - أنتِ تعرفينه، أعتقد ذلك.  رفعت رأسها هذه المرة بإهتمام وهي ترفع حاجبيها بتساؤل: - من؟!  أطرقت بحياء وهي تُجيب: - فاضل، ذلك الطالب الذي يحضر معنا المحاضرات.....  ثم أردفت وهي تضحك بحبور: - لم أكن أتخيل أنهُ كان يحضرها لأجلي، كي يكون معي في نفس المكان...تخيلي كان يحبني وأنا آخر من يعلم. ……………………..-  - ولأن هذه آخر سنة له، لم يصبر، بعث لي بأخته لتفاتحني بأمر الخطوبة، كم تفاجأتُ حينها....  لم تنتبه لرفيقتها، تلك التي أمتقع وجهها فجأة، بات شاحباً، يُحاكي الأموات....  - أتصدقين قالت لي أخته أنهُ كان يحبني منذُ عامين..منذُ عامين وهو يلاحقني أملاً في أن يعرف اسمي بالكامل وعنواني!!!! ……………………..-  - كان بمقدوره أن يُريح نفسه من هذا العناء كله لو كان سألني. …………………….-  - لم أكن لأمانع، كم هم جُبناء هؤلاء الرجال!!!! …………………….-  - ها ما قولك؟! ألا توافقيني بالرأي؟!  ثم أردفت دون أن تنتظر حتى جوابها، ابتسمت بحلم وهي تضع يديها أسفل ذقنها وتنظر للسقف بنظرة حالمة.. - لايهم، لايهم، المهم أني سعيدة، سعيدة لدرجة أني أودُّ أن أحلّق الآن.  كان العرق يتصفّد من جبينها ببطء، بدت قطراته ملساء، ناعمة، متلألأة رغم ظهيرة هذا اليوم...  انسابت القطرات بخفة، جرت على جفونها، تلكأت على رموشها ثم.....  سقطت!! هبطت من علو، هوت إلى أسفل، كما هوى قلبها إلى الأعماق...  الدم يضخ بعنف في شرايينها، يرسل إشارات مجنونة إلى أطرافها، يأمرها بالصراخ، لكنها تتشبث، تتمالك نفسها، الحزام ينقطع، ينقطع، ها هو ينفلت، يتفتت، تتقاذفه الرياح، تُطيّره، أين هو أين؟!  تنفسها يزداد، وجهها يتقلص، وشفتاها تبيضّان، تلاشت الألوان تماماً، تلاشى كل شئ، كل شئ....  صدت لصاحبها، لازالت تبتسم بحلم، تُحلق بأجواء طالما حلّقت هي فيها....  عادت لتنظر ليديها، كانت ترتجف، تهتز بقوة، بل تكاد تجزم بأنّ اهتزازها يخترق الطاولة الفاصلة بينهما، يصل ل"سلمى" ويفضحها!!! يفضحها ويفضح حبها الأرعن!!!  الأرعن!!!!  القطرات لا زالت في انسياب، وحبات العقد تنفرط، تنفرط كثعبان يتلوى في كل إتجاه....  زفرت بقوة، بقوة وكبدها تتلظى، تتفتت مع كل نسمة، مع كل كلمة، مع كل حرف....  - سأذهب قليلاً..ثم سأعود.  لم تنتظر حتى الإذن، سارت، وخوار يدبُّ بأقدامها، يجعلها تترنح، تمسك بالكراسي كل حين، وتتلفتت حولها لكأنّ الجميع يُشير إليها، لكأنهم اكتشفوا أمرها، اكتشفوا غباءها، اكتشفوا حبها الأرعن!!!!  ذهبت دون عودة، ما أسهل الكذب وما أصعب الحقيقة....  الحقيقة علقم وأحلامنا سراب...سراب...  الطريق إلى البيت يبدو بعيداً، طويلاً على غير العادة...  الحرارة تنشب مخالبها في الجسد، تُقطع أوصاله وترميه للأشباح لتتقاذفه، تلتهمه، تقضي على الرمق المتبقي..  تتخبط في طريقها إلى غرفتها، لم تعبأ براشد ولا بخطيبته، كانت تُريد أن تصل لغرفتها فقط وينتهي الأمر...  أمنحوني ثوانٍ فقط، لأفرغ ما بداخلي، أسمحوا لي أرجوكم..أرجوكم أنا.....  - كلالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالال الالالالا...مستحيل..هذه كذبة..مستحيل..مستحيل.  ضربت مرآتها بقبضتها، اهتزت واهتزت أشياءها، ترتد أماماً ووراءاً، الاهتزاز يهزُّ خواطرها، بعثرت كل ما هناك، عطورها، مكياجها، صورها...وكل شئ.  صدرها يعلو ويهبط بقوة والنار تستعر بجنون، لا تريد أن تتوقف، لا تريد أن تهدأ، ترفض إلا أن تقودها في طريقها لتحرق ما أمامها وخلفها..كلُّ شئ..كل شئ.  الغشاش...الكاذب...ذلك الحقير...  أوهمني..خدعني....  كذب علي....  نظراته..ابتسامته..حديثه لي....  كاذب حقير حقير وهي أحقر منه، خطفتهُ مني، خطفت من أحب..  صفعت وجهها الملبد بالدموع، كانت تلهث من الغيظ، من الألم، ألقت بنفسها على السرير، تكتمُ لوعة اجتاحت فؤادها، عضت يدها بقوة لتمنع شهقاتها، صرختها، تبكي حبيبها الغادر، وصديقتها الغشاشة....  لماذا سلمى بالذات، كيف حصل ذلك، كان ينظر إليّ أنا ، يخاطب عيناي أنا، يسير خلفي أنا، يبتسم لي أنا، يتلكأ بخطواته لي أنا؟؟؟؟!  أنااا وليس هي، قلتُ لكم أنا أنا أنا.....  ألم يطلب مني الدسك بنفسه، ألم يقل عني رائعة؟!!!  أم يا ترى كان يريده ليعرف اسمها بالكامل؟! كان يتملقني من أجلها؟!! ليصل إليها هي؟!!  لالالالالالالالالالالالا هذه كذبة كريهة لا بد أنه أخطأ، أنا واثقة بأنه يعنيني أنا، أنا وليس هي..  هي لم تعبأ به يوماً، لم تذكره حتى في حديثها، لم تلتفت له، أنا من كنتُ أحفظ خطواته، أعد همساته، أصيغ السمع لكلماته...  أنا من أحببته، أنا من كنتُ أجن حين أراه، أنا من لا أنام إلا بعد أن يلوح طيفه أمام عيني....  - كلا، كلا لابد أنه كان يعنيني........  كيف؟! وقد بعث بأخته لها، لها هي وليس لي أنا......  - كلالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالالا  الوسادة تغرق، تغرق بدموع لم تألفها العينين بعد، دموع مخزونة كزخات المطر قُبيل السقوط.....  الجسد يرتج، يموج بأحزانه، يتقلب بين نيران الحقيقة، بين نيران الكذبة، نيران الحياة الزائفة.....  تختلط القطرات، تتهادى دون قيود لتلتحم مع القلب المعذّب، لتحكي قصة، قصة حقيقية، من واقع الحياة.......  وكانت ضلالات...ضلالاتُ الحب....

***

ضلالات الحب حيث تعيش القصص. اكتشف الآن