23

6 1 0
                                    

كان ينتظرها بفارغ الصبر، قتلهُ الانتظار، وعصفت به خواطره، أفكاره وظنونه كأمواج البحر، تطفو حيناً وتغزر حيناً آخر، لا قرار لها....  لاحت سيارة العائلة السوداء، تنحى عن الباب وهو يوسع الخطى إلى هناك، فتح باب السيارة قبل أن تفتحه، عاجلها بالسؤال: - ها كيف حالها؟! سأل بلهفة.  لم تجبه فوراً، ترجلت من مقعدها، وجهها يرفُل بآيات الحزن، العينان منطفئتان والوجه ساهم وقد علقت بقايا دموع في حناياه.  - كيف حالها؟! كرر بدون صبر. - بخير. ردت بإختناق.  تنهد بإرتياح وإن كان صوتها لم يرحه، تطلع لها بتساؤل وهو يرى الدموع تنساب من المحجرين، أمسك يدها بقوة وهو يقول: - أنتِ تخفين شيئاً، قولي ماذا بها؟! أجيبي... - إنها..إنها... - إنها ماذا؟! أجيبي.. سأل بخوف. - لا أدري، لا أدري.  وأجهشت بالبكاء، أدخلها للداخل، وقلبه يدق بقوة كطبول مجنونة، أجلسها على الكرسي لتهدأ، أخذ نفساً عميقاً وهو يكمل سيل أسئلته: - ماذا تقصدين بكلامك، أفصحي.. - لو رأيت حالتها، كيف تعيش، لاشئ في البيت، البيت خالي إلا من الجدران، أتصدق كانت لوحدها، لوحدها في البيت.  شهقت وقد منعتها الغصة من أن تكمل، أما هو فتقطع قطعاً صغيرة، انقبضت عروقه وبدا كل شئ ضبابياً بالنسبة إليه..  - كيف لوحدها؟! وأخوها!! - حين وصلت هناك، كان قد خرج، خرج ذلك المجرم وتركها لوحدها..  "مجرم!! ليس هو فقط، لو تدرين ماذا فعلتُ بها!!".  أطرق برهة، ومئات الخواطر تتقاذف بذهنه، تعتصره عصراً، تقذف به إلى القاع، أكون أو لا أكون..تلك هي المشكلة!!!  تطلع لأخته، لازالت تبكي، أحس بالشفقة لها ولنفسه ولتلك القابعة ليس ببعيدٍ عن هنا....  جفل من نغمة هاتفه، قطع عليه تأملاته السرمدية ورثاءه لنفسه...  نظر للرقم الذي يتوسط الشاشة، كان غريباً، ضغط الزر وأنساب الصوت: - آلو. - السلام عليكم. - وعليكم السلام. - السيد خالد ال...؟! - نعم. - معاك مستشفى (....) قسم الحوادث. …………………..-  - أنت معي؟! - ن..عم. ردّ بتقطع وقد جفّ حلقه. "- فيصل ال..." سعودي الجنسية، تعرفه؟! - أجل. هوى قلبه للأعماق.  - لقد أصيب بحادث سيارة، أرجو أن تحضر فوراً.  أغلق السماعة، لم يسمع كل ما قاله الرجل، بدأت الدنيا تدور وتدور كداومة مجنونة، والصفعات لا تتوقف، أينما استدرت انهالت عليك، وتستمر الدوامة في الدوران...  ===============  الساعة الآن الواحدة والنصف، و "أحمد" لم يعد بعد، دارت حول الصالة بتوتر، تتطلع إلى الساعة كل حين وتهرع إلى الباب حين تسمع بوق سيارة، أو خطوات إنسان أو حتى دبيب نملة!!!  الساعة قاربت الثانية، أين هو يا ترى؟!  ارتعدت فرائصها..أحدث له مكروه؟!!  شعرت بالجزع، وضعت أصابعها بين شفتيها المرتجفتين، ماذا تفعل الآن..أجيبوني؟!  أبوها ليس هنا...."ليلى" ليست هنا...."محمد" ليس هنا...لا أحد هنا، فقط هي وهذه الجدران التي تخاطبها بجنون...  من سيساعدها، من سيبحث عن "أحمد"...لا أحد، أقول لكم لا أحد...  لا بل يوجد أحد.  يوجد الله ثم .......  هرعت إلى الشماعة، سحبت عباءتها، وانطلقت خارجاً، كادت تتعثر، وصلت لبيت "أم محمود"، جارتها، دقت الجرس بقوة دون أن تتركه ثانية واحدة، أطلّ "محمود" بوجهه، سألته بلهفة: - أمك موجودة؟! - أجل، هنا..تفضلي. - لا، قل لها أريدها فوراً.  حضرت المرأة مسرعةً وهي تعدل من وضع وشاحها: - ماذا بكِ يا ابنتي؟! "- أحمد" أخي، لم يعد بعد من المدرسة و... - اهدأي، اهدأي ربما يلعب مع الأطفال والآن سيعود. - كلا كلا، إنه لا يتأخر أبداً. "لا يريد أن يتركني لوحدي، يفهمني هذا الصغير". - طيب، ارتاحي أنتِ وسنبحث عنه.  تطلعت إلى ابنها الذي ناهز الثلاثين من عمره، فهم نظرتها: - سأذبحث للبحث عنه، لا تقلقي سنجده إن شاء الله. - سآتي معك. - لا يوجد داعٍ، سأجده. - لا سآتي، سأبحث معك، ماذا لو أصابه مكروه، سيكون بحاجة لي. قالتها وهي توشك على البكاء.  هزّ كتفيه بيأس، فسارت خلفه ومعهم "أم محمود" طبعاً...  بحثوا بالقرب من مدرسته، وبالدكاكين والمحلات المجاورة، لكن لا أحد، لم يجدوه، وكلما زادت الدقائق زادت دقات قلبها الجزعة، كانت تستند بضعف في كل ركن، تمسكها "أم محمود" وهي تترنح، ترفع رأسها بسرعة كلما لاح لها طيف طفل، تفتش في الوجوه، وتدعو الله باللطف، اللطف فقط...  الساعة الآن الثالثة، خانتها قدماها، لا بد أن شيئاً جرى له، لا بد، اختطفوه ربما، ضاع!!!  - أحمدددددددد...  صرخت ونياط قلبها تتقطع، أسندتها "أم محمود"، هتفت لإبنها جزعة: - خذنا إلى البيت بسرعة، لقد أغمي عليها.   عادوا إلى البيت، تفتح عينيها ببطء وتعود لإغمائها...... تهذي بإسمه، ودموع تنساب من عينيها المغلقتين!! تنساب رغم إغماءها!!!!  ==============  وصل "خالد" إلى حيثُ "فيصل"، كان مسجى على السرير، وقد أحاطت به الأجهزة والضمادات كأذرع أخطبوط!!!  مثخنٌ بالجراحات، صدره يعلو ويهبط بضعف، ارتجفت يد "خالد" وهي تمسك بعمود السرير...  "فيصل" فيصل!!!! ناداه بصوتٍ أجش، لعله يسمعه، لعله يخاطبه قبل أن يفوت الأوان وينتهي كل شئ، كل شئ!!!  أخبره الطبيب أن فرصة نجاته ضئيلة جداً، أحس بأصابع واهنة تلمس يده، تطلع..  كانت أصابعه تتحرك دون هدى...  اقترب منه أكثر، دنى من وجهه، فمه المتيبس يتحرك بصعوبة، بصعوبة شديدة...  - خا..لد..  وبكى، بكى ولم يكمل..أغمض عيناه وأصابعه تزيد من ضغطها الواهن على يده..  "فيصل...يبكي!! ذلك الذي يفتر ثغره دوماً عن ابتسامة..عن ضحكة تجلجل المكان..يبكي!!".   - سأموووت..سأمووت.  أخذ يردد بصوتٍ ضعيف، بكى "خالد" هو الآخر، بكى من الداخل، على روحه، على صديقه، على كل شئ....  - سأموت قبل أن أودع أمي، أخوتي الصغار. ………………-  - أتذكر حين اتصلت بي أمي ذلك اليوم ترجوني العودة، رفضت، أردتُ أن أمتع نفسي هنا..يا ليتني عدت، لن أراها الآن، لن أراها...  لازالت الدمعة عصية في عينيه، حلقه جاف، يرفض أن يترطب ليخاطب ذلك الذي يعالج سكرات الموت...  اهتزّ بدنه، وتنفسه يزداد، أمسكه "خالد"، ضغط على يده ليهدأ من نفسه، حرك "فيصل" رأسه بضعف ناحيته، ابتسم، ابتسم واهنة: - لا تنساني يا "خالد" لا تنساني، أنت أفضل رجل صادقتهُ بحياتي لولا غرورك...  عادت دموعه لتنساب من جديد، سرت قشعريرة في جسد "خالد" خاطبه بهمس: - ما هذا الهراء يا رجل، ستقوم، ستقوم بعد قليل لتملأ أجنحة المستشفى بصوت ضحك....  اختفى صوته، أختنق في حنجرته، كان مغمضاً عينيه و على الشفتين ابتسامة.  هزه "خالد" ورعدة بقلبه تزلزل أطرافه، تكاد تُسقط جسده الثقيل من علو إلى الأرض، أسفل سافلين!!!  فتح "فيصل" عينيه بصعوبة وكأنه يكابد ثقلاً، تنفس "خالد" الصعداء ولمعة تتألق في عينيه.  - لا تنم يا "فيصل" لا تنم، أبقى مستيقظاً..قليلاً، قليلاً فقط... قالها بترجي، بتوسل. - سأموت يا خالد، سأموت لا فائدة. - كلا لا تقل هذا. - سأموت وأنا وأنا....  حينها تغيرت ألوانه، تجعد وجهه وهو يردف بإختناق: - وأنا فاسق، زاني، لا أصلي ...  تدحرجت الدموع بغزارة من تلك العيون العصية، لمّ جسد صديقه لعله يهدأ بين ذراعيه.  - لا أريد أن أموت الآن، ليس قبل أن أعتمر، أن أحج..لا أريد أن أدخل النار..لا أريد أن أموت الآن لازالتُ شاباً...لالالالالالالا  اهتزّ الجسدان معاً، كان "فيصل" يمسكه بقوة، لكأن بإمساكه يمنع ملك الموت أن يأخذه، يحاول أن يتشبث به حتى الرمق الأخير، فليبتعد، ابعدوا "عزرائيل" عني أبعدوه...  - خ..ا..لد لا..لاتنساني بدعائك أبداً...  "والتفّت الساقُ بالساق، إلى ربك يومئذٍ المساق"  أمواج السراب تتلاطمُ من بعيد، الصمتُ يخيم حول المكان ما خلا غصات بالقلب وجروح متقرحة بالذاكرة، أفل الجسد، وغابت الروح، عرجت إلى الملكوت، حيثُ الحساب، حيثُ إما الجنة أو النار.....  لازال "خالد" ممسكاً بالجسد، يضمه، يشمه، يسكب عليه دموعه، يبكيه بحرقة ولأول مرة يبكي...  بكى بقوة بكاءاً غير طبيعي البتة، كان خائفاً، خائفاً بشدة، زاد من ضمه للجسد الذاوي، عبراته تخنقه، ودّ أن يصرخ، أن يزلزل أروقة المستشفى.  "أعيدوا فيصل أعيدوووووه".  ==============  أفاقت من إغماءها، تطلعت إلى العيون المحدقة بها، فتشت خلفها لعلها تجد تلك العيون الصغيرة التي تعرفها، لكن لا أحد...  أحتقن وجهها، وبدأ فكها بالإهتزاز، تريد أن تسأل، أن تصرخ، أين هو أين؟! - لا تخافي يا ابنتي، لقد وجدناه، وجده "محمود". - أين؟! ولماذا ليس هنا؟! أنتم تكذبون..لقد حدث له مكروه، قولي الحقيقة. - إنهُ في..في المستشفى. - ماذا؟! - ضربه أحد الأطفال و..شجّ له رأسه.  أنهضت نفسها بتثاقل رغم ممانعة المرأة لذلك.  - أين ستذهبين؟!  مسحت دموعها الملتهبة، الحمد لله وجدوه، لك الحمد والشكر يا رب.  - سأذهب إليه، سأذهب للمستشفى. - أنتِ متعبة. - أنا بألف خير. - سآتي معك.  دلفتا معاً إلى المستشفى، قسم الحوادث، كان القسم مزدحم بشتى الناس، لكأن أصابهم جنون، معظمها حوادث تصادم سيارات..والسرعة قاتلة لا ترحم....  أخذن يبحثن بين الرؤوس، يسألن الممرضات، والكل لا يعرف عن أحد، الكل مشغول، منهم من ينتظر مصير من يحب، ومنهم من ينتظر يد الجراح لتقتصّ منه!!!!  أشكالهم كانت منفرة ومفجعة، ورائحة المستشفي تصيبها بالدوار....  - أجلسي هنا يا ابنتي، سأبحث أنا عنهم، لا نريد أن يُغمى عليكِ من جديد..  هزت "مريم" رأسها إيجاباً بضعف وهي تغمض عينيها....  باقي من الزمن ساعة، أليس كذلك؟!  كان يستند بالجدار كل حين، يلتفت إلى تلك الغرفة التي حملت جثمان صديقه، مثواه الأخير....  ترحّم عليه في سره مراراً وتكراراً، وشعور بالخوار يجتاح ضلوعه، يصيرهُ شفافاً، خفيفاً، لا جلَد له...  مسح دمعته المنسابة بحياء بين حنايا وجهه المتعب، الممر يبدو طويلاً لا نهاية له، وقد أنزوى في أروقتها أجساداً متناثرة هنا وهناك، بعضها يبكي وبعضها يُعانق!!!!!  تأمل صفحات هذه الوجوه، يرى في كل صفحة صورته، صورة "فيصل".. "أخ أيها الغالي"...  لم نحس بقيمة الشيء بعد أن نفقده؟!!  مسح وجهه، وأعين فضولية تراقب الصراع الكامن بوجهه...  تابع سيره، والخوار يعود ليعتريه، يُشعره بالهمدان...  مرت عليه نسوة ثاكلات، أفجعه نياحهن، فليساعدك الله يا "أم فيصل"، بل فليساعد الله كل أم مفجوعة بفلذة كبدها...  دموعه العصية باتت هتونة، أخذت تذرف بغزارة، وهو يذكر أمه، دعا من الله أن يحرسها له...  "يا رب أحفظ كل أمهات المسلمين"...  لم يشعر "خالد" قط بأنهُ قريب من الله مثل هذه اللحظة، كان يدعو بحرارة نابعة من القلب، لا بل من سويداء القلب، تحت الأحشاء مباشرة...  أجساد تتصادم به، لازالت تسرع بجنون هنا وفي الخارج!!!!  الناس لا يتعظون أبداً...أبداً...  أستند من جديد على الحائط وهو منكسٌ رأسه، رفعه فجأة...  لكلُّ منا حاسة سادسة..أليس كذلك؟!  هي، هذه هي، أقسمُ بذلك، إنها هي، هي، هي....  رأسها مستند بالخلف بالجدار، عيناها مغمضتان، وتنفسها بطئ، بطئ جداً...  ارتعدت فرائصه وباتت حواسه ذاهلة، معطلة...  تلاشى صراخ الناس، نياحهم، فوضتهم، كل شئ بالنسبة إليه ما عدا هي...  تحرك رأسها بالضيق من على الجدار، وجهها يعبس، لكأنّ شيئاً يضايقها...  وجهها ذابل، شاحب، آآه يا قلبي...  ورنّ في ذهنه سؤالاً فاجئه...  ماذا تفعل هنا بالمستشفى؟!  "أخرس يا خالد، من أنت لتسأل، يكفي ما فعلته بها"..  لكنني لا أستطيع، صدقوني، أفهموني أرجوكم، لعلكم حينها تُفهِموني!!!  فتحت عيناها ببطء لكأنها أحست بعيون تراقبها، تتأملها على غفلةٍ منها، خلسةً كاللصوص!!  كان يريد أن يبتعد عن ناظريها، لا يريدها أن تراه، ليس الآن..ليس الآن، ربما في وقتٍ آخر!!!! لكن قدماه عاندتاه، ترفضان أن تطيعه، وأتت اللحظة الحاسمة...  رأته، رأته بأم عينيها...  لالالا لا يا إلهي لا...  رآها تنثني على نفسها لكأنها تعتصر شيئاً ما، لا يا ربي لا...  أخذت تستفرغ بقوة وهي تكاد تلامس الأرض وتنفسها يزداد بجنون...  لم يظهر شئ، كانت تستفرغ ذلك اللاشئ!!!!  أصبح وجهها أحمراً قانياً، الضغط كله أنصبّ على وجهها، حين أنحنى الجذع النحيل...  هرعت إليها الممرضات المارات، أمسكنها وأصوات تنادي بنقلها لغرفة ما...  كانت تقاوم، تشير إلى شئٍ ما....  لم يفهمنها الممرضات أما هو فبلا...  كانت تشير إلى المجرم..إليّ أنا...  دار حول الجدار، ودلف لممرٍ آخر....  ماذا فعلت يا "خالد" ماذا فعلت؟! 

***

ضلالات الحب حيث تعيش القصص. اكتشف الآن