الفصل السادس

9 2 0
                                    

غسلت الأواني كيفما بدا وقلبها يخفق من شدة الفرح، أخيراً سيتغير روتين حياتها، أخيراً ستحسُّ بنفسها وباستقلاليتها، ستكون شيئاً ما، شيئاً منتجاً و مهماً....ستتوظف!!!  اتصلت بها في الصباح شركة مقاولات كانت قد قدمت بها مسبقاً لوظيفة سكرتيرة واليوم وبعد مرور شهرين من تقديم الطلب وافقوا على مقابلتها..  ترنمت بصوتها الجميل وهي تميلُ برأسها، أمسكت بملعقة معدنية، لم تكمل غسلها بالصابون، تلمست انحناءها الشاذ إلى الخلف، بللتها بالماء وهي تتفحص الإسوداد الموجود أسفلها، ماتت الفرحة من على شفتيها، دققت فيها لثوانٍ ثم ركنتها في طرفٍ لوحدها وهي تتنهد: - لن يتوقف أبداً...متى يموت ونرتاح منه!!! عضت على شفتيها وهي تستغفر الله..ماهذا الكلام إنه أخوها قبل كل شيء...   دخل المكتب بنظارته السوداء، يتقدم أخاه بجسده الفارع، ألقى التحية على الجميع دون أن ينظر لأحدٍّ معين. - أنت السيد خالد؟ - نعم. - اعطني بطاقتك المدنية و تفضل بالجلوس لو سمحت.  جلس بمقابل الأب وابنته، ينظر للأخيرة بثبات دون أن يحول عينيه عنها، نظرت إليه بنفس الهدوء وقد جلس "أحمد" الصغير في حجرها.. بينما ظلًّ "راشد" واقفاً لعدم وجود كرسيٍّ شاغر..  كان الأب عاقداً ذراعيه، يتفحص من تهجم على ابنته، من أثار لها ذكرى الطفولة الأليمة، كان خالد مرتدياً ثوباً أبيضاً ناصعاً، شماغه مربوط إلى الخلف على الطريقة الإماراتية، بدا جذاباً ومهيباً تلك اللحظة..  "يبدو من عائلة محترمة بلا شك، المظاهر كثيراً ما تكون خادعة" هكذا تساءل الأب في نفسه!  تطلع الشرطي إلى البطاقة بحيرة، نزع قبعته وهو يتحسس شعره المجعد: _ أأنت ابن السيد محمد "الـ...... " رجل الأعمال المعروف؟! ردّ باقتضاب: - أجل. - أليس هو من بنى دار رعاية الأيتام الجديدة؟ - نعم. - أهااا.  "تساءلت مريم في نفسها، لمَ كل هذه الأسئلة التي لا معنى لها وتلاقت عيناهما في تلك اللحظة وقد ارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة مغرورة، أمّا الأب فقد فزّ قلبه وبدأ جبينه يتصفد عرقاً، أهذا ابنه؟ مالنا وهؤلاء الناس، أين نحن وأين هم، فرقٌ شاسع بينهم، المال والفقر، هو الفرق بين الثرى والثريا...."  سكت الشرطي برهة وهو ينظر للطرفان، ثم تنهد: - اسمع يا سيد "خالد" سندخل في الموضوع دون إطالة، هذه الأخت- وأشار إلى مريم - تدعّي أنك تهجمت عليها بواسطة كلب و....  حينها صرخ "أحمد"الصغير وهو يبتعد عن حجر أخته: - أجل، كلباً كبيراً وكريهاً، ولكن ليس أكبر من صاحبنا هذا..  أطلقت"مريم" ضحكة صغيرة فرّت من حلقها رغماً عنها ورغم جدية الموقف . "من أين جئت بهذا الكلام الكبير يا أحمد"، زمجر الأب في وجه ابنه: - عيب يا أحمد ما هذا الكلام، اعتذر للرجل فوراً. - لكن يا أبي هو الذي... - اذهب قُلت لك وإلا صفعتك أمام الجميع. - لا يوجد أي داعٍ لذلك يا سيدي، إنه مجرد طفل..ردَّ خالد.  التفت إلى مريم، التي كانت تضع يدها على فمها وقد احمرّ وجهها من أثر الضحك المكبوت، انتبهت إليه وهو يراقبها فأخذت تكح على سبيل التمويه، كم تبدو جميلة وهي تضحك، تبدو بريئة كالأطفال..  طأطأ "أحمد" رأسه بذّل، بكى في خاطره لِمَ يصرخون عليه دائماً، لقد أصبح رجلاً الآن، من سيحترمه بعد اليوم!! تمنى أن يكبر وتنمو عضلاته ليريهم قوته الحقيقة..متى أكبر متى؟!  - أنا آسف.قالها بتعثر. - لا عليك يا صغيري.  لا زالت تسعل..من شابه أخته فما ظلم "ههههه"!! كانت تودُّ أن تغادر المكان لتُخرج ضحكتها قوية مجلجلة، لكنها خجلت من نفسها، هؤلاء رجال، ماذا سيقولون عنها..مجنونة؟!  - أتريدين كوب ماء؟ سألها بسخرية لاذعة.  ماتت الضحكة على الشفتين ولم تعلِّق، لِمَ لا يعمل منغصاً للأفراح؟!  - احم، احم. (تنحنح الشرطي وهو يكمل( لنعد إلى صلب الموضوع، هذه الأخت تتهمك بأنك حاولت أن تتهجم عليها بواسطة كلب، فما قولك في هذه التهمة؟ - وأين شهودها؟  شهقت مريم وهي تتعجب من وقاحته، التفتت إلى الشرطي وهي تشير إلى "راشد": - ذاك الواقف أمام الباب كان موجوداً معنا آنذاك، أسأله.. خاطبه الشرطي بنبرةٍ جادة: - هاا، ما قولك؟؟  ارتبك راشد، نظر إلى أخيه، كان وجهه جامداً لا تبين ملامحه: - في الحقيقة، في الحقيقة...  لكنّ "خالد" قاطعه وهو يدير له ظهره ويخاطب الشرطي مبتسماً: - عذراً على المقاطعة، أنا لا أنفي أنّ في اتهامها جانباً من الصواب، ولكن تخيل يا سيدي أنك صاحب مزرعة يُقفل بابها دوماً لمنع المتطفلين – التفت حينها لمريم ثم أردف – وتجد أشخاصاً يخرجون منها ومعهم دجاجة!! مالذي سيدور في خاطرى غير أنهم لصوص!! لذا كان حتماً عليّ أن أدافع عن مُلكي. - إذاً أنت تعترف بأنك هددتها بالكلب.(سأله الشرطي.( - أنا لا أعترف بشيء، وإذا كانت تعني بالشهود أخي، فإنّ كلمتي أنا وأخي ستكون ضدّ كلمتها هي وهذا الطفل..  صرخت "مريم" وهي تصرّ على أسنانها: - أو تجرؤ على الكذب...ألا تخجل من نفسك في مثل سنِّك وتكذب، ماذا تركت للصغار؟؟! - مريم.. (شدّ الأب يد ابنته وهو ينظر لها شزراً فصمتت.(
الجزء [2] من قصة ضلالات الحب     تجاهلها وهو يكمل مخاطبة الشرطي: - وبهذه المناسبة أغتنم الفرصة لأبلغ عن سرقة دجاجي، والمتهمة هنا موجودة!! ولديّ بدل الشاهد عشرة..  فتحت "مريم" عينيها على أوسعهما دهشةً..من جاء يبلغ عمّن!!!  - أنا لم أسرق، كل ما في الأمر أنّ أخي اصطادها وأصرّ على أخذها معه..طفل صغير كيف أقنعه!! وكنّا سنشتري لكم دجاجة أخرى على أية حال.  ابتسم خالد وكأنما أعجبه حديثها معه: - دجاجُ مزرعتنا يختلف عن الدجاج الآخر. - كيف؟! ريشها مصبوغ بالذهب مثلاً؟!!  اتسعت ابتسامته لكنه ابتلعها بسرعة، عقد حاجبيه الرفيعان، سرعان ما التصقا عند المنتصف: - أنتِ من بدأتي أولاً.  نظرت إليه دون تصديق، هل يسخر منها، تساءلت في نفسها: أكل هذا من أجل دجاجة لا يتجاوز سعرها ديناران بالعملة البحرينية؟! أليس موضوعاً سخيفاً بل مضحك...كلا، كلا ليس مضحكاً، كان سيكون مضحكاً لو لم يحضر ذلك الكلب الكريه...  - أنا اعتذر بالنيابة عن ابنتي وابني الصغير عمّا فعلوه، وأرجو أن تغفر لهم تجرأهم على ممتلكاتك، إنهم أطفال وحديثوا العهد بهذه البلاد الكريمة..  كان الأب هو من تكلم حينها، تطلعت إليه وجهه محمّر وقد تلألأت حبات العرق على جبينه الأسمر المغضن، إنه يعرق كثيراً رغم برودة الجو!! - أبي…. هزّ الأب رأسه، عيناه تخاطبانها ترجوانها أن تصمت، لكن يبدو أنها لم تفهم لغة العيون: - أبي نحنُ لم نفعل شيئاً خاطئاً لتعتذر.. - قلتُ يكفي......نظر لها بحدة فصمتت وهي تكاد ُ تتفتت من الغيظ .."لماذا انقلب والدي هكذا فجأة"!!  التفت إلى الشرطي وهو يخاطبه ببطء: - سيدي الشرطي ابنتي ستتنازل عن البلاغ.  نظر هذا الأخير إلى "مريم" لكنها لم تجب، لازال رأسها مطرقاً إلى الأرض وهي ممسكة "أحمد" بقوة. - هاا، ماذا تقول الأخت؟؟ أتقبلين بالتنازل؟  رفعت رأسها لتجد "خالد" يبتسم وهو يراقبها، في عينيه بريقٌ واستكانة، يتابع ما يجري بصمتٍ وحبور، هزّ رأسه بخفة ثم رفع أحد حاجبيه الرفيعين لكأنهُ ينتظر إجابتها أيضاً، ودت لو تمسح هذه الابتسامة البغيضة عن وجهه، لقد أغاظتها.."لماذا جئنا إلى هنا إذا كنا سنتنازل أصلاً؟! أين كلامك يا أبي؟؟ أين تهديداتك بأنك لن تسكت عما فعله بي..أذهبت الكلمات أدراج الرياح، أم أنّ كلمات النهار يمحوها النهار أيضاً، لم جبُنت هكذا يا أبي لِمَ؟؟  - هاا، ما قولك؟ كرر الشرطي سؤاله.  لم تُجب، "لو يوقف هذه الابتسامة فقط!!"، انتبه لها والدها وهو يستعجل ردها، لكنها كانت شاردة، أمسكها من مرفقها، عادت لتلتفت إليه، لازال وجهه محمراً ومعرقاً... هزت رأسها بالنفي، فضغط على ذراعها بقوة، احمرّ وجهها من الإحراج، عادت لتهز رأسها بالإيجاب. - قولي للشرطي أنك تتنازلين عن القضية. - أ..أنا ات..اتناازل.  تنهد الشرطي بارتياح، أما هي فلم تقوى على النظر إلا شيء إلا حذائها الي كان جسد "أحمد" يحجبه!! لم تود أن ترى وجهه لابد أنهُ لا يزال يبتسم.. - وقعي هنا لو سمحتِ..  ناولها القلم، أمسكته بارتجاف ووقعت دون أن ترى بوضوح..أخذ الشرطي منها الدفتر وقربه من "خالد": - وقع هنا أيضاً هذا التعهد بعدم التقرب منها.  التفت إليها وهو يطرف عينه اليسرى، نظرت للجانب الآخر وهي تمط شفتيها بضيق: - القلم لو سمحتِ يااا.... أختي..   رفعت القلم لتركنه على الطاولة لكنها غيرت رأيها، مدت يدها لم تكن المسافة كبيرة بينهما، مدّ يده ليتناوله لكنها آنذاك أسقطته..  والتمعت عيناه ببريقٍ غاضب جمدهُ بسرعة لكنها لاحظته، ابتسمت باستهتار وهي تتمتم: - معذرةً. - لا بأس عندي قلمٌ آخر. (وتناول "خالد" القلم من الشرطي وهو يوقع بسرعة.( - يمكن للجميع أن ينصرف الآن.  خرجت عائلة مريم أولاً، كانت هذه الأخيرة غاضبة من والدها، لقد أحرجها، جعلها طفلة أمامهم لا رأي لها، لم تتعود على هكذا، عودتها أمها دوماً على الجرأة، على أخذ حقها وعدم التنازل عنه أبداً، ساروا في الممر بضع خطوات دون أن ينبس أحدهم بكلمة: - بابا..أريدُ أن أذهب للحمام.. (قال "أحمد" وهو يمسك ببطنه.(  التفت الأب حوله، فرأى سهماً يشير إلى دورة مياه للرجال. - اجلسي على كراسي الانتظار تلك، سأذهب معه ونعود.  لم تعلق، لا زالت غاضبة منه ومن الموقف برمته، عضت على شفتيها وذهبت لتجلس على كرسيٍّ محاذٍ للجدار، عقدت ذراعيها حول كتفيها وهي تنظر إليهم وقد ابتعدوا في الناحية الأخرى..دقت الأرض بقدمها اليمنى بملل وهي تتأفف بضيق.  في تلك اللحظة لمحها "خالد" ولم ينتبه لها "راشد"الذي كان مندمجاً في اتصالٍ ما. - "راشد" اسبقني للمنزل، لديّ عملٌ مهم وسألحقك بعد قليل..  هزّ "راشد" رأسه بإيجاب وانصرف بينما سلك "خالد" الطريق الذي يؤدي إليها، وبكل الحنق والغضب الذي يشعر به تقدّم تجاهها وتذكر حركة "القلم" ونظرة الاستهزاء بعينيها، تقدم ببطء شديد دون أن تشعر بوقع خطواته وما أن وقع ظله عليها حتى التفتت ناحيته.. ماذا سيحدث بينهما؟؟...

***الروايه منقوله

ضلالات الحب حيث تعيش القصص. اكتشف الآن