الفصل الرابع

564 53 9
                                    


بعد عام اجتمع كمال برفيق دربه جلال الدين حين طلب منه مقابلته ليتحدث معه في أمر هام. لبى فرحان دعوة صديقه وأثناء احتسائهما للشاي في أحد المخابئ التي تم تجهيزها لإخفاء الأسلحة قال كمال: "جلال، هناك ما أريد أن أفاتحك بشأنه". وضع فرحان كوب الشاي وقال مستنكرا تردد صديقه: "قل يا كمال، لماذا تمهد للأمر هكذا يا أخي؟". وابتسم كمال وقال مندفعا: "أريد أن طلب ابنتك شيلان لابني جمال، فما رأيك؟". نظر فرحان إلى رفيقه لبعض الوقت ثم قال وقد خفت صوته: "صديقي وأخي، طلبك هذا غال جدا على قلبي، لكن ابنتي ما تزال صغيرة على الزواج برجل كجمال يحمل روحه في كفه". "لم أفهم، هل ترفض تزويج ابنتك كونها صغيرة بالعمر أم كون جمال يعمل معنا؟". "جمال لا يعمل معنا فقط يا صديقي، جمال هو من يرأس كل شيء هناك، خطر انكشافه في أي وقت وارد جدا، فالخونة في كل مكان يا أخي". "أفهم من ذلك أنك ترفض نسبنا". حزن فرحان على رفضه لطلب صديقه، لكن لم يكن بين يديه إلا هذا، فأجاب: "أرجوك افهمني يا صديقي، ابنتي شيلان أضعف مما تتصور، ثم أنت تعلم أنها وحيدتي التي بقيت لي في هذه الحياة. لأصدقك القول أمامنا وأمام أبنائك طريق ومصير مجهول، لا أقلل بحديثي هذا عن أهمية حياة أبنائك فأنا من رباهم واعتنى بهم وكأنهم قطعة مني، لكن شيلان ستكسر بعد زوجها وتيتم أطفالها دون ذكر أنهم قد يقتلهم مصطفى فهم سيكونون أحفادنا، أخبرني يا رفيقي ما العمل حينها؟". تنهد كمال بحسرة حين علم أن صديقه محق: "لقد ألجمت لساني يا صديقي، ليس هناك ما يقال بعد الذي قلته أنت، لكنني أشعر بأن جمال يرغب في الزواج بها إن لم يكن قريبا فليكن بعد عدة سنوات، ما رأيك؟". رمقه فرحان بنظرة شك، فهو لم يتوقع أن شاهين قد يكن أية مشاعر لابنته، فهي أمامه طفلة وشخصيتها الصبيانية لا تناسب رجلا مثله، فسأله قائلا: "هل أخبرك بذلك؟". "لا، لم يصارحني بذلك، لكن عندما عرضت عليه الأمر ابتسم ولم يقل شيئا. يبدو أنه ينتظر الوقت المناسب ليفاتحك في الأمر". قاطعه صديقه قائلا: "جمال أمامه وطن ليحرره، ويجب أن يركز على عمله وأن نساعده نحن أيضا على ذلك. يجب أن لا نشتته بأمور كهذا تشغل القلب والعقل عما نفعل". لاذ كمال بالصمت ليضيف فرحان بجدية: "هذا ليس وقت الزواج يا كمال بل وقت ثأر يؤخذ، هناك وطن يجب أن يُسترد". "ما العمل إذًا يا جلال؟ يبدو أنني تسرعت يا صديقي". "لا تقلق سأحل الأمر بطريقتي".

***


"لكنني لا أريده يا أبي". نظر الجميع نحو شيلان التي كانت تبكي متوسلة أباها أن لا يقبل بخطبة ابن خالتها غير الشقيقة لوالدتها. سألها والدها حينها: "ما العيب فيه يا يا شيلان؟". "بل قل ما الذي ليس فيه يا أبي، فلا يوجد عيب إلا وقد أصاب منه". قالت شيلان من بين دموعها. ضحك طاهر رغما عنه فشاركه عدي في ذلك، أما شاهين فكان الوحيد الذي يبدو متجهما وهو يرى المسرحية التي تحدث أمامه. لقد استرق السمع في ذلك اليوم الذي تحدث والده مع عمه فرحان عن زواجه بشيلان دون قصد منه، فقد كان يريد أن يشاركهم احتساء الشاي ليُصدم حينها برفض عمه له. لم يغضب منه، فمن حقه الخوف على ابنته ورفض زواجها برجل لا يدري أحد ما مصيره غدا. لكن كلماته ظلت محفورة في ذاكرته حتى الساعة. عاد من شرود ذهنه حين سمع فرحان يناديه: "شاهين بنيّ". نظر شاهين إليه دون أن يقول شيئا، فسأله: "لقد استدعيتكم للحضور كونكم بمثابة أبنائي وإخوة شيلان ، فأخبرني ما رأيك؟". نظر شاهين إليه ثم إلى شيلان الذي كانت تتوسل إليه بعينيها أن يقف جانبها في هذا الوضع. كانت ملامحها تستجده دون أن تنبس بحرف، لكنه قال ببروده الذي اعتاد ترويضه: "في هذا الأمر لا أجد لرأيي مكانا، فالرأي رأي شيلان يا عمي، فالأمر يخصها وحدها فقط". شعرت شيلان بأنه خذلها. لأول مرة تشعر بالغضب نحوه هكذا، قلبت عنه النظر إلى عدي الذي قال جازما: "عم فرحان أنا أرى أن شيلان رافضة لهذا الزواج ، فلماذا تصر أن تزوجها به؟". "يا بنيّ، أي أب في العالم راحته تكمن في رؤية ابنته متزوجة وفي بيت زوجها، فلماذا أرفض؟". علق طاهر: "نعم، هذا إن كانت هي موافقة على الزواج، لا أن تكون كشيلان دمعتها تسيل على وجنتيها هكذا!". فقالت والدتها معترضة على كلامه في ظاهر الأمر حزينة في حقيقتها فكان جل امنياتها أن يكون زوج ابنتها شاهين لا سواه وذلك لما تكنه من حب له لكن لم تستطع أن تغير رأى زوجها فأرادت ان تشعل غضب شيلان لعل والدها يلين لها فمن المؤكد أنه لن يستطع أن يفعل بها هذا: "كل الفتيات يتدللن هكذا ويرفضن الزواج في البداية، ثم ابن خالتها لا ينقصه شيء لكنها ظنت أنها حين تعلمت بعض الحروف والكلمات أصبحت مختلفة عن سواها من فتيات قريتها". صدمت شيلان من قول والدتها فردت عليها من بين دموعها: "إن كان هذا قولكِ أنتِ يا أمي، فماذا ستقول خالتي وابنها وأول شروطهما أن أترك دراستي؟". فقال طاهر مصدوما: "ماذا؟ ولماذا يتشرط منذ البداية؟". انفجرت شيلان في البكاء: "أريت يا طاهر؟ وليس ذلك فقط، بل سيسافر هو ليكمل دراسته في الخارج بينما أجلس أنا لدى أمه أساعدها وأعتني بها وكأن ليس لديها ثلاث فتيات يعتنين بها". "شيلان، عيب عليكِ قول ذلك، إنها خالتكِ سواء تزوجت ابنها أم لا". قالت والدتها مؤنبة. "صحيح يا أمي إنها خالتي وأنا مستعدة أن أخدمها دون أن أتزوج ابنها في حال لا تملك أحدا يقوم بذلك، لكن أن تستغل وضعنا وتظن أن سكنانا في القرية جعلنا معتوهين فلن أسمح لها. لماذا لا أسافر معه لأكمل دراستي أنا أيضا أم أنهم يريدونني خادمة؟". نظرت والدتها إلى شاهين وسألته على أمل أن تضغط عليه هو الآخر: "ما رأيك يا شاهين؟". جال شاهين بنظره على الجميع ليجد عدي وطاهر يشيران له بالرفض بينما والدي شيلان منتظرين إجابته وكأنه ابنهما البكر، فالأمر بيده كعادة القرويين في إعطاء بكرهم اتخاذ القرارات بعد أن يكبر. ثم عاد ونظر نحو شيلان التي أشاحت بنظرها عنه. استغرب فعلها ذاك فهو لم يقم بما يجعلها تغضب منه هكذا. سأل نفسه أحقا يا شاهين لم تفعل شيء يغضبها؟ ألم يكن بينكما وعد سري لا يعرفه سواكما؟ ألم تقل عيناكما ما لم تنطق به ألسنتكما؟ شيلان فتاة ذكية جدا ولا يقل ذكاؤها عنك بشيء، فهي كانت تنتظر عودتك كي تخطبها لا لتسلمها لسواك، لكن ما الذي تعرفه شيلان عن حقيقتك وحقيقة حياتك؟ هل يعقل أن تعرضها للخطر بسبب أنانيتك؟ هل ترد جميل صنيعها وحنوها بهذا الجزاء؟ عد لعقلك وزوجها برجل تعيش معه حياة طبيعية وتنجب اطفال لا خوف عليهم من مستقبلاً مجهول. عندها قال شاهين بصوت ثابت: "إن كان الأمر عن الدراسة سنشترط عليه أن تكملي دراستك وأن يستأجر لكِ منزلا مستقلا". "لو يفرش لي الأرض ذهبا فلن أتزوجه". قالت له وقد تملكها الغضب كأنها فوجئت بما لم تكن تنتظره منه. "شيلان لا أرى أي عيب فيه حتى ترفضيه". قال شاهين بحزم وهو يحاول أن يخفي مشاعره. "أحقا لا ترى به أي عيب يا شاهين؟". سألته وقد علقت عينيها اللتين امتلأتا بالدموع بعينيه ليرى ألمها. شعر شاهين أنه يعاقب قلبه ويكويه على ما كنه من مشاعر لهذه الصغيرة، وذلك حين نطق قائلا: "نحن بالكاد رأيناه يا شيلان، من أين لكِ أن تحكمي على شخص من رؤيته مرتين فقط؟". انهمرت دموعها قهرا منه حينها، فنظرت نحوه ولم تتمالك نفسها فقالت وهي تقف أمامه: "صحيح، فهناك أشخاص نعرفهم منذ سنوات طوال لكنهم يفاجئوننا بغربتهم عنا!". لُجم لسانها حين تلقت صفعة قوية من والدها الذي وثب قائما وهو يصرخ: "بسبب وقاحتك هذه ستقام حفلة خطبتكِ غدا، شئتِ أم أبيتِ". رفعت نظرها نحو والدها الذي لم يصفعها طيلة خمس عشرة سنة مضت من عمرها. لم تؤلمها الصفعة بقدر ألمها ممن جاءت منه. لم يحدث أبدا أن غضب منها والدها فكيف بأن يصفعها. شعرت أن شيئا ما لم يعد كما كان من قبل. الآن خطت في صحيفتها أن والدها قام بصفعها لأول مرة في حياتها فخارت قواها. بالكاد استطاعت أن تسير حين صرخ في وجهها ثانية: "هيا إلى غرفتك فلا رغبة لي برؤية وجهكِ". كان كل شيء قد تدنس. سارت وهي منكسرة والخيبة تملؤها من أعز شخصين كانت تحتمي بهما في أوقات كهذه. أحست كأنها ضائعة في صحراء مفازة لا تدري أين السبيل. أما شاهين فقد كانت في داخله تُقام حرب طاحنة بين التزام الصمت والدفاع عن حبهما. فليس له ذنب في طريق كُتبت له ولم يخترها؟ ذنبه أنه حفيد عائلة البرزاني. لم يستطع أن ينهض من مقامه ليغادر وهو يسمع شهقات شيلان التي صمت أذنيه وأذني والدها، فهو يعلم جيدا أن عمه فرحان قام بصفعها كي يوقظه هو من أوهامه، لكن في سبيل ذلك حطم براءة أحلام تلك الصغيرة. أغمض عينيه وانخرط في حزن عميق. رغم أنه يتفهم وجهة نظر عمه، فهو يعلم جيدا أن ما فعله عمه هو عين الصواب وقِوامه. لقد ضحى بسعادة ابنته حتى يبعدها من أمام عينيه، فلا مكان للحب في المكان الذي يسيرون فيه. لم يكن أمامهم إلا الموت يرقبهم من كل صوب، وحين لا يكون المرء حازما يحدث له ما حدث قبل سنوات. كان فرحان يعلم جيدا أن هذا الطريق يقود جيدا إلى مذابح جماعية مدمرة، الأمر الذي لن يسمح أن يحدث مرة أخرى، فقد أخذ نصيبه من الألم. نظر شاهين إلى عمه وقال بنبرة حزن مؤلمة " مثل هذه الأمور لا تحل بالعنف يا عمي". نهض عمه غاضبا وسار إلى غرفته مداريا حزنه على ما يحدث، وهو يفكر أنه كان لا بد من القسوة في هذا الموضع ليقول قبل أن يختفي داخل غرفته: "يبدو أنني قد دللتها كثيرا". لم يعد هناك ما يقوله شاهين أو يفعله فنهض هو الآخر لتنهض عمته رقية تزامنا معه، وسارت نحوه وضمته بقوة وكأنها تواسيه بصمت، فعلى ما يبدو أن مشاعره كانت ظاهرة وهو الذي لم يدخر جهدا لإخفاء حاله. لم يتحمل شاهين أكثر فاستأذن مغادرا إلى غرفته التي تجمعه هو وأخويه. لكن ما إن خطا خارج المنزل حتى تلقفته رياح الشمال القارسة والتي تُنذر بتساقط الثلوج عما قريب. شعر حينها كم أن جسده ساخن ويحتاج إلى هذه الرياح كي تداري حرارة قلبه. لم يرغب في الذهاب إلى فراشه فوقف في باحة المنزل مختبئا خلف شجرته المفضلة ودخل في نوبة حزن عميق. اخذ يفكر أنه منذ عشرة أعوام وهو يعاني هنا ولم يكن هناك ما يهون عنه سواها هي فقط، هي من كانت بلسم أيامه لكن ما باليد حيلة. مكث هناك قليلا ثم نهض وسار نحو الغرفة التي تضمه وأخويه. جلس على فراشه دون أن ينظر لأحدهما، فقد لاحظ أنهما متأهبين لمشاجرته. خلع سترته وحذاءه بهدوء تام ثم نام من فوره، فلم تكن لديه المقدرة على خوض أي نقاش حول الأمر.

أبناء النار و الجبال ( مكتملة ) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن