الفصل الثالث عشر

489 44 42
                                    


(الوقت الحالي . . )

نظر جهاد إلى شيلان التي بدأت تعمل معه في المستشفى بعد أن أشارت عليها خالتها أن تذهب لتؤدي واجبها كابنة لهذا الوطن، أما جهاد فكان أكثر شخص سعيد في الشمال كلها بانضمامها لهم، وما أسعده أكثر هو ما عرفه من خالتها أنها وشاهين لا يتواصلان أبدا، مما يعني أن هناك فرصة كبيرة أمامه هذه المرة. "تفضلي". قال وهو يجلس بجانبها على المقعد الذي كانت تريح عليها جسدها المثقل بالهموم والأفكار المترامية، فقد قضت يومها وهي تتنقل بين غرف العمليات جيئة وذهابا. فرغم أنها لم تكمل تخصصها بعد لكنها اضطرت أن تخوض في عمليات معتمدة على نفسها في التعلم، ومن الجيد أنها وجدت أستاذا جامعيا يعمل هناك فجعلت تستشيره في الحالات التي تعرض عليها وما ستقوم به. وكان كثيرا ما يثني عليها وعلى ما تقوم به. لا تعرف لماذا كلما أثنى عليها أحدهم تذكرت شاهين وشعرت بالامتنان له، فقد تعلمت منه حب العلم كله. تنهدت بحزن وهي تتناول الفطائر التي أحضرها لها جهاد. لو يعلم ذلك القاسي البارد كم اشتاقت له شوقاً فتت أضلعها وأعمى بصيرتها لجاءها من حيث هو ليرضيها. لقد اشتاقت لصوته العذب وضحكته الهادئة التي تتغلغل في الروح بكل نعومة وعذوبة. غالبت دموعها وهي تتذكر كل تفاصيله وتلك الكلمات العذبة التي كان يلقيها عليها. ثم استرقت النظر إلى جهاد الذي يقوم بالاعتناء بها مع أنها أظهرت له عدة مرات عدم وجود أي فرصة له في حياتها. لقد أخبرها أن تعتبره بمثابة صديق لها وأنه لن يضايقها أو يطالبها بشيء فلزمت الصمت ولم تناقشه أكثر، فليس بها أي قوة لتقاوم أي شيء.

***


مرت عدة أشهر والمستشفى كانت سلوى شيلان الوحيد التي كانت تقضي فيها جل وقتها. لعلها توقف عقلها في التفكير في شاهين. باتت ليلتها تلك في المستشفى فقد خافت من العودة إلى المنزل بجو مشحون، فهي منذ الصباح تشعر بإرهاق وتعب لهذا فضلت أن تبقى هناك، وخاصة بعد أن هددت الحكومة الجنوبية أنها ستكثف القصف رداً على ما قام به الثوار الشماليون من اقتحام مدن شمالية كانت تحت سيطرة الجنوب لمدة سنواتٍ طوال وقُتل الكثير من الجنود الجنوبين الذين قاوموا الثوار. عمت الفوضى الإعلامية البلاد بين تسمية الشماليين ثوارا وخونة إرهابيون، ليجد المتابع نفسه حائراً وهو يتنقل بين القنوات الإخبارية وقد بدت كل منها تظهر له الأمر من وجهة نظرها المتحيزة، فانتشر فتيل الخبر كالنار في الهشيم. جلست شيلان على أحد المقاعد في داخل المستشفى وهي تفكر كيف تَبَدَّل حالها من الثرثرة إلى امرأة تائهة في شوارع الصمت؟! كيف لها أن تستعيد شغف الحديث والرغبة في الحياة؟ لقد أصبحت الساعات متعبة بالنسبة لها حد الموت، فقد كان صوت الأفكار الصاخب يعلو في زوايا جسمها. لم يعد هناك شيء يثير اهتمامها أو انتباهها، فالأيام تتكرر بشكل ممل وقاتل. كانت تشعر أن داخلها أصبح مكانا مهجورا لا يطرقه بشر، وفي ظل تلك الوحشة الموجعة رفعت كوب قهوتها السوداء لتحتسي منها قليلا. أتت ذكراه وهو يقول لها في زمن مضى: "انظروا إلى من أصبحت تحب احتساء القهوة السوداء". جلست هناك تعاتب نفسها على التفكير في تفاصيل ذكرياته التي لا تفارقها. كانت كل الأشياء من حولها تذكرها به، فقد أمضى معها سنين طويلة نذرت له نفسها وكان فيها المبتغى والقدوة في كل شيء. تذكر أنه أخبرها مرة أن تصمت لخمس دقائق وأن لا تتكلم معه إلا بعد انقضائها. وكانت تغالب نفسها حتى تمر تلك الدقائق لتخبره أنها قد مرت كأنها أعوام. في تلك اللحظة بالذات اكتشفت أنها متعلقة به ومدمنة على الحديث معه. لم تكن تلك الدقائق ما أحزنتها بقدر ما غلب عليها هاجس الحرمان منه. كيف بها وقد ذهب كل في طريقه وأضحى بينهما صمت ساعات وساعات؟ وفي ذلك المكان الموحش تساءلت في صمت: "لقد انقضت تسعة أشهر لم يسأل فيها عنها ولا سأل عن حالها ولا خبرها، فهل انطفأت جذوة الحب بينهما وعادا غريبان حقاً؟". غطت وجهها بيديها وأسندت مرفقيها على رجليها وأجهشت في البكاء. جاء دمع الخيبة والحرمان كأنه حُبس هناك منذ سنين بعيدة. تلك السنين التي لم تبك فيها إلا فرحا وغبطة خبأت لها كل هذه الدموع السخينة والمؤلمة. ما أغرب الحياة وأجحفها. شعرت بيد قوية تمسك بكتفها وللحظة ظنت أنه قد تجسد ليخفف عنها عبء البكاء كما كان يفعل، لكنها رفعت رأسها لتجد جهاد يجلس بجوارها وهو يسألها قلقا: "ما بكِ؟ لماذا تبكين؟ هل أصاب والديكِ مكروهاً؟". جففت عينيها وهي تهز رأسها بالنفي فسألها مجددا بصوتٍ أخفت: "هل شاهين من أصيب؟". فكرت في أنها هي من أصيب وهو مصيبها. فجأة شعرت بألم شديد أسفل بطنها وامتد إلى أسفل ظهرها لتنحني وهي تشعر به يمزقها. أمسك جهاد بيدها والقلق بادياً عليه بكل صدق وقام بمساعدتها على السير.

أبناء النار و الجبال ( مكتملة ) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن