الجزء الثالث ( الفصل الأول )

335 33 29
                                    

الفصل الأول


لقد أحببتك أكثر مما ينبغي


لا أستطيع نزع حبك من قلبي


ذلك أشبه بنزع الروح من الجسد


أحببتك تماماً مثل حبي لوطني


فالقلب بلا حبيب تماماً مثل الوطن بلا حرية


فهلا أتيت أنت والحرية معاً . .


ميديا فصيح عثمان






بعد مرور عامين


اجتمع جميع أفراد عائلة قدري ورجالهم ومن يوالونهم من القرى المجاورة أمام المنزل يرغبون بتقديم يد العون لكمال وأبنائه الذين يضحون بأرواحهم من أجل حرية وكرامة بلادهم، وذلك بتجهيز المكان الذي سيقام فيه زفاف أدهم وغادة. تفرق الجميع إلى مجموعات فرحين بهذا الزفاف الذي أعاد لهم بعض الذكريات السعيدة. أخذ الرجال بتزين المكان بالمصابيح الملونة وتجهيز مكان جلوس أدهم وعروسه، بينما انقسمت النسوة لقسمين؛ قسم يقوم بتجهيز الطاولات وقسم يقوم بتجهيز الطعام. كان المكان يعبق برائحة الأزهار والورد البري وقد اختلطت برائحة الشواء والأطعمة المختلفة التي تعبت النسوة في تحضيرها منذ الصباح. خرجت ريوانا تحمل مصطفى بين يديها فقد خافت أن يؤذي نفسه حين تتركه دون رقيب. لقد كان مشاغبا مثلها في الصغر، إلا أنها لا تعرف بخصوص والده. تذكرت أنه لم يحك لها عن طفولته مطلقا، بل كان كصندوق مُحكم الإغلاق حتى فهمت السر وراء ذلك فيما بعد. تنهدت وهي تراقب حولها فتذكرت حفلة خطبتهما وهي تشعر بالحسرة والألم. لم يكن ما عاشت إلا مجرد كذبة كبيرة وخدعة نتج عنها طفل لم يكن ينبغي أن يأتي. وضعت مصطفى كي يلعب مع طفلتي برزان وجلست بجوار ثلاثتهم تفكر في الغائب الذي طال غيابه عاما وشهرين. لم يسأل عنها طيلة تلك المدة ولا عن طفله أو يبالي بهما، فكل ما كان يفعله هو أن يهاتف والدته التي تنقل له أخبارهما والتي بدورها تخبرها هي عن حاله. علمت مرة أنه أصيب في كتفه ومرة أصيب في قدمه لكنه ظل مرابطا في مكانه دون استسلام. لقد أقسم أنه لن يعود إلا إن انتصر أو محملاً على الأكتاف. لقد وضعها بكل أنانية هنا هي وطفلها وذهب ليحقق انتقامه. فجأة سمع الجميع ضجة أبواق سيارات عالية وطلقات رصاص كثيفة أتت من خلف البوابة، ولوهلة ظنت ريوانا أنهم قد تمت مهاجمتهم فأخذت مصطفى وأمرت كلاً من غنى وغنوة باللحاق بها، لكنها صُدمت في مكانها حين رأت البوابات تُفتح والنسوة يزغردن بسعادة والموسيقى تعلو المكان. ولم تكد إحدى السيارات تقف حتى قفز منها من كانت تفكر فيه قبل قليل. كان الفرح يتردد في المكان وصدى صوت الزغاريد قد ملأ القرية. رفع كمال حينها سلاحا وبدأ يطلق الرصاصة تلو الأخرى حتى ليظن من يراه أنه لن يتوقف. كان فخورا بالنصر وبمن عادوا محققين له. لقد اختلط الأمر على غيداء كذلك فقد أخدت تركض بفزع وهي تبحث عن ابنتيها لتجد أن الأمر ليس إلا استقبالا حافلا للعائدين من الحرب، فتنفست الصعداء واضعة يدها على صدرها كي تهدأ بعد الفزع. وقعت عيناها على برزان الذي كان يضم ابنتيه بسعادة ويقبلهما بحرارة فقد كاد الشوق يقتله. لقد خيم عليه الحزن حين رآهما قد نضجتا وهو منشغل في الحرب دون المكوث معهما. شردت حينها بذهنها إلى اليوم الذي زارت فيه عمتها هي وابنتيها برفقة الحارسين اللذان مكثا واقفين أمام المنزل حتى تعود، فاستقبلتها عمتها بحفاوة سعيدة بزياراتها لهن. أخذت تضمها وتقبلها هي وصغيراتها لتُفاجئ غيداء بالهدوء الذي يعم المكان، سألت عمتها عن البقية لتجيب: "إنه موسم الحصاد يا ابنتي". "آه، لم أكن أعلم". ابتسمت عمتها وقالت وهي ترمقها بنظرات أزعجتها: "وما يدريكِ بهذه الأمور يا ابنتي!". لقد دارت بينهما يوما الكثير من الأحاديث التي كشفت لها الكثير. لقد اكتشفت كم أنها تشبه جدتها فكلاهما يملك حس الدعابة وخفة الظل، وربما كانت تلك الملامح هي ما يجذب غيداء لزيارتها بين الحين والحين. تذكر أنها سألتها حينها: "عمتي، هناك الكثير من الأسئلة التي تدور في عقلي لكنني لا أجد لها أجوبة حتى الآن لأنني لا أعرف لمن أوجهها ولا أعتقد أن هناك من هو أفضل منك ليجيبني عنها". "وما هي هذه الأسئلة التي تبحثين لها عن إجابات يا ابنتي". تنهدت غيداء بحزن وقالت بأحرف جرتها من داخلها مُرغمة وهي تشعر بالخيانة تجاه والدها بمجرد طرحها لتساؤلات كهذه: "هل حقاً والدي خائن؟". لم تكن عمتها تتوقع سؤالا كهذا، ولم تكن مستعدة للإجابة عنه، إذ لم تكن علاقتها بغيداء قد عضُدت وتخاف خسرانها، لكن الحقيقة يجب أن تُقال. ثم إن استغرابها من أن تكون غيداء لم تعرف حقيقة والدها بعد فرض عليها أن تبوح بما حدث فأجابت بهدوء ولطف كي تخفف من وطء الأمر: "مع الأسف نعم، والدك خاننا وخان بلده وشعبه يا غيداء. لقد باع الجميع وقبض الثمن". أغمضت غيداء عينيها تألما من وقع الإجابة عليها ثم قالت محاولة أن تجد أمرا منطقيا في كل هذا: "هل تعلمين لماذا خان؟ أرغب في معرفة سبب قيامه بذلك، فأنا لا أستطيع تصديق أنه قام بفعل أمر شنيع كهذا!". تنهدت عمتها بأسى ثم أمسكت يدها وأجلستها بجانبها وقالت بعد ذلك: "بدأ الأمر حين نسيّ أنه مجرد صبي بسيط في مزرعة عائلة قدري وأصدقائهم فوقع في حب ميديا؛ الابنة الصغرى لعائلة قدري. كانت فتاة لطيفة تقدم والدك لخطبتها أثناء دراسته في الجامعة ظناً منه أن كونه طبيباً سيجعل عائلة قدري تنظر إليه نظرة مغايرة عما كان عليه، لكن سرعان ما اتضح له أنه مخطئ". "وما الذي حدث لوالدي بعد أن تقدم لخطبتها؟". أجابت عمتها وقد غلب على صوتها الحزن كأنها استحضرت تلك الأيام وما آل إليه حالهم: "قام فوزي وإخوته برفض والدك مع قول بعض الكلمات اللاذعة التي آذته وجرحت كرامته، ولم يكتفوا بذلك، بل زوجوا ميديا بشاب كان صديقا للعائلة. كان شابا ثريا ووسيما ويبدو أن ميديا وقعت في حبه حينها. وحين وجدها ذات مرة وجد أنها ليست كما عهدها وأن بعض الغرور والكِبر قد أصاباها وأخذت تنظر إلى بعلو فزاده كل ذلك حقداً عليهم وغيظا". قامت غيداء لتسكب لها كوب قهوة بعد أن رأت تأثرها بسرد كل تلك الأحداث كأنها تعيشها، ثم سألتها مجددا: "وما الذي حدث بعد ذلك؟". صمتت لدقائق وأخذت تحتسي قهوتها كأنها تحاول أن تتذكر الأمر بدقة، ثم قالت: "لقد تزوج والدكِ والدتك فظننا أنه قد نسي الأمر، فقد أكمل دراسته وأنجبكم واحداً تلو الآخر، لكن بعد ذلك اشترك في حركة الثوار الشماليين وبدأ يرافق السيد كمال وإخوته بالإضافة لرفاقهم الذين وقعوا في يد مصطفى وحكومته واحداً تلو الآخر ليمزقهم شر تمزيق. بالإضافة إلى أن من ثبتت عليه خيانة من أي نوع كان يُطلب من عائلته أن يتم تسليمه ومن يرفض ذلك يتم قتله مع عائلته في منزلهم، أو يقومون بدك المنزل بمن فيه. لقد تمت يا للأسف إراقة الكثير من الدماء.. وكان والدكِ السبب فيها". "عمتي، إلى الآن لم تخبريني متى وكيف خان والدي الجميع. أنتِ ترددين ما يُقال عنه فقط". تنهدت عمتها بحزن ثم قالت: "لا يا ابنتي، لا أردد ما يقال، بل أعرفه حق المعرفة. ذات مرة اتصل بنا والدكِ وأخبرنا أنه سيهرب مع والدتنا خوفاً من بطش مصطفى وحكومته. ظل القلق ينهشنا خوفاً عليه منه لكن ذلك لم يحدث قط، فتنفسنا الصعداء أنه ظل بخير". "لم أفهم بعد". "ذات يوم أتى زوجي وهو يحمل صحيفة احتوت على صورة والدكِ وقد تغير اسمه لمجدي وأصبح طبيباً مشهوراً في الجنوب وأصبح يرافق مصطفى وأصدقاءه فكُشفت ألاعيبه لنا حينها". "ألم يزركم بعدها؟". "لا، لم يزرنا لأنه كان يعلم أنه قد يقتل إن أتى إلى هنا، فجميع الشماليين غاضبون منه وأولهم أبناء عمومتنا وأقربائنا، لهذا فقد قطع صلته بنا جميعاً". مسحت غيداء وجهها بانزعاج ثم وقفت تراقب ابنتيها من باب المطبخ المطل على الحديقة، وهي غير مصدقة كل ما سمعته، لكنها تعلم أن عمتها هي الوحيدة التي لن تُغير في الحقائق شيئا، فهذا أخوها وليس لها أي مصلحة في ذلك. مع ذلك ظل خداع برزان لها أمراً لا يغتفر. وفي تلك اللحظات التي ارتفعت أصوت النصر حولهم أخذت تراقبه وهي تتمنى أن لو كانت التقت به في عالم آخر. عالم لا تكون فيها حرب أو أسرار يخفيها عنها ولا يكون في خداع ولا كذب. انسحبت من أمامه دون أن تلاحظ أن عينيه كانتا تلاحقانها دون توقف حتى اختفت. تمنى لو بإمكانها تجاوز الماضي.

أبناء النار و الجبال ( مكتملة ) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن