الفصل الثالث

494 47 66
                                    



فتحت ريوانا عينيها وهي تشعر بثقل فيهما، لتجد أنها نائمة على ذراع عدي الذي كان يلعب بشعرها. التقت أعينهما لبرهة فسألها بحنان لم يخف عليها: "كيف حالكِ يا حبيبتي؟". أغمضت عينيها كأنها تفكر في شيء ما ثم قالت: "أشعر أن بداخلي حرب طاحنة، أخجل من نفسي". نزلت دموعها وهي تقول: "أنا هربت معك، تركت والدي الحبيب وعائلتي ووطني خلفي واخترتك، أنا بعت الجميع واشتريتك، وأنت ماذا فعلت؟". ضم وجهها وهو يقول متأثرا بدموعها وكلماتها: "أنا كذلك أحببتك، ولم أتخيل حياتي بدونكِ لحظة". أغمضت عينيها ثانية وانكمشت على نفسها. سلمت له الأمر حين اقترب مستغلا لحظة الضعف تلك ثم ضمها. أبعدته قليلا ورفعت نظرها نحوه، وبعينين ممتلئتين بالدموع قالت: "أنا سأعطيك فرصة أخرى كي أثق بك وبحبك". هز رأسه مستفهما يحثها على أن تكمل. فاسترسلت قائلة: "دعنا نهرب إلى الخارج كما خططنا منذ البداية، وهكذا تثبت أنك تحبني بحق كما أحبك". "كما تريدين". قال وكأن بريق أمل قد لاح له من بعيد. "المهم أن ترضي عني وتغفري لي ونعود كما كنا. أنا مستعد أن نبدأ من جديد في مكان آخر من هذا العالم". انفجرت في البكاء بسبب ما تحس به داخلها. لقد كانت مشوشة وضعيفة. لم تعرف مم تتولد لحظات ضعفها تلك. جفف دمعها وهو يقول: "أعدكِ أننا سنهرب من هنا يا ريوانتي وأننا سنعيش في مكان رائع بعيدا عن كل هذه الفوضى، فأنا أيضا أشعر بأنني منهك ومتعب من كل هذا". "عدي، أرجوك ألا تخدعني فلن أتحمل خداعا آخر منك، قد تقتلني حينها. هل تفهم؟". "أعدكِ أننا سنهرب هذه المرة". قال بثقة. ابتسمت ريوانا وشعرت بالارتياح يسري إليها. نهض عدي من جوارها بعد أن تمكن منها النوم، لكنه قبل أن يغادر المكان قام بتقييدها بالأصفاد. فتحت عينيها فجأة وسألته مندهشة: "هل غيرت رأيك؟". "هذا لكيلا يشك بنا أحد". قال مبتسما. أغمضت عينيها إلى النصف كأنها تقرأه، لكنها لم تقل شيئا. خرج عدي وأغلق الباب خلفه ثم اختفى.

***


"صباح الخير". استدارت كلا من زوجة كمال وابنتيها اللواتي كن يقفن في المطبخ يساعدن والدتهن بتحضير طعام الإفطار. كان أدهم قد وقف هناك ينظر إليهن بوجه مشرق، لتبتسم له زوجة عمه قائلة: "صباح الخير يا بنيّ، ما الذي أيقظك باكراً هكذا؟". "لقد اعتدت على الاستيقاظ باكرا". قال أدهم والنور قد لاح عليه. "لكنك نمت متأخرا". ضحك حينها مجيبا: "وهل كنتِ تظنين أننا كنا نحظى بالنوم في الجنوب يا عمتي؟ كنا ننام بعين بينما تظل الأخرى تراقب الوضع". "يبدو أنكم عانيتم كثيرا يا بنيّ". قالت بنبرة حزن. "لا داعي للحزن يا عمتي، فرغم ما مررنا به إلا أننا على الأقل نلنا ما سعينا إليه". "نحن لم ننل شيئا بعد يا بني، فالحرب ما زالت في بدايتها" قالت زوجة عمه ذلك بحزن عميق. "ما هذا الحديث يا عمتي؟ وكأنكِ تريدين تحبطين معنوياتنا!". "ليس ذلك ما قصدته، لكنني خائفة من أن يعيد التاريخ نفسه مجددا". "ستحطمين قلبي بهذا الكلام يا عمتي، هل يعقل أنكِ لا تثقين بنا؟". "أنا قلقة عليكم وعلى شبابكم أن يضيع في حروب لن تأتي بنتيجة تُذكر، أو نفقد أحدكم لا سمح الله مثلما حدث معنا سابقا". ليقول أدهم حينها بكل ثقة: "غدا عندما ننتصر ونحرر أراضينا وأراضي أجدادنا ستعرفين أنكِ لم تنجبي أطفالا بل أنجبت فرسانا أين ما وضعتهم أتوا لكِ بالنصر". "يبدو أنك تكن لأبناء عمك حباً كبيراً يا بنيّ". قالت ذلك وهي تبتسم بحنان. لمعت عينا أدهم وهو يقول: "بالطبع، لا شك في ذلك، وخاصة زوج ابنة مصطفى له مكانة خاصة دون البقية". "من أين لك كل هذا التفاؤل؟". سألت جلنار حينها. "فنحن منذ شهرين فقط هنا وأشعر أننا نكاد نختنق من شدة الخوف والتفكير السوداوي في المستقبل؟". ضحك أدهم من فوره: "ربما لأنني منذ فتحت عيني وحياتي مليئة بالمتاعب ومفترقات الطرق. لقد ولدت وتوفت والدتي، ثم بلغت الخامسة ليطوي التراب والدي تحته، وبلغت الثامنة من عمري لتلحق جدتي بهما. انتقلت حينها من مكان إلى آخر ومن شخص إلى آخر فتعلمت أن أتقبل الحياة برحابة صدر، فرغم انتقالاتي تلك إلا أن ربي كان كريما معي فقد كنت أقع بأيدي أشخاص طيبون". "أمثالك نادرون يا بنيّ". "لن تجدي مثلي فأنا قطعة نادرة". قال وهو يرفع ذراعيه بسخرية. ضحكت فيروز وابنتيها. لقد لاحظ أن غادة هي الوحيدة التي كانت تتابع حديثهم بصمت، لتعود جلنار وتسأله: "لماذا لم تتزوج حتى الآن كإخوتي؟". نظرت كلا من والدتها وأختها إليها بغضب من تدخلها في خصوصياته، أما أدهم فقد ابتسم مجيبا: "نصيب". "نصيب أم قرار؟". لكزتها غادة وهي ترمقها بغضب، ليجيب أدهم متبسما وقد عدل عن رأيه: "قرار". "وما سبب قرارك هذا؟". سألت جلنار متجاهلة أختها. أشاح أدهم بنظره قليلا مفكرا ثم تنفس الصعداء وقال: "ما كنت أنوي أن أتورط بزوجة وأطفال وأنا لا أعلم ما يخفي لي الزمان، فخفت عليهم من بطش مصطفى، فإن كنت استطعت أن أتحمل اليتم وكل ما مررت به ربما زوجتي وأطفالي لا يستطيعون فعل ذلك، فأكون جنيت على نفسي مرتين؛ مرة دون اختياري ومرة بعمل يدي، ففكرت أنه عندما أقرر أن أتزوج يجب أن يكون المكان والزمان المناسبين". ثم سكت قليلا واستدرك: "والفتاة المناسبة أيضا". "ليت أبناء عمك فكروا بعقولهم مثلك بدلا من قلوبهم، كنا الآن نعيش سعداء باجتماع شملنا". قالت الأم متحسرة على ما آل إليه أبناؤها. ثم وكأنه استحضر أمرا على حين غرة قال: "لقد أنساني حديثي معكن لما أتيت من أجله. أتيت باحثا عن كوران". "إنه مع ابنة مصطفى منذ البارحة". قالت جلنار بامتعاض. "لا تتحدثي هكذا عن أخيكِ وزوجته". قالت غادة وهي تؤنبها. "لا تقولي زوجته، ألا تذكرين ما قالته؟ ستقتل من يقول زوجة أخي، فماذا تريديننا أن نسمي تلك المجنونة؟". "جلنار!". قالت غادة مستنكرة ما قالته. "حسنا، سأغلق فمي". قالت جلنار ذلك احتراما لغادة التي تكبرها بعشر سنين. "جيد، أكملي عملك". لم تعلم غادة كم أحب أدهم ذلك، فقد وجد أنها فتاة لطيفة وذات روح جميلة، فرغم ما فعلته ريوانا بها لم تقبل أن تتحدث أختها الصغرى عنها بسوء، فهي تظل زوجة أخيهن. ليعلو فجأة عويل وصرخات بأرجاء المنزل. ركض أدهم نحو المصدر ومن خلفه زوجة عمه كمال وابنتيها، فوجدوا أن جميع أفراد عائلتهم يقفون في الساحة الخارجية ينظرون إلى عدي، الذي طلب من رجاله إركاع أبناء عمومته الثلاثة المقيدين والمصابين. وقف عدي شاهرا سلاحه وقد اتخذ قرار قتلهم أمام الجميع ليكون ذلك عبرة لمن تسول له نفسه أن يفعل فعلتهم. قال والشرر يتطاير من عينيه: "اليوم سيأخذ كل منكم جزاءه الذي يستحقه، يجب أن أتخلص من ثلاثتكم قبل أن تسببوا لنا المزيد من المشاكل بغبائكم". نظر ثلاثتهم إلى بعضهم البعض ثم إلى عمهم كمال الذي خرج ليرى ما يحدث هناك. صُدم حينها مما رآه وقد فكر أن ابنه قد جن بحق! سمع حينها زوجة أخيهم فوزي تبكي وتصرخ وهي تدفع الجنود الذين أمسكوا بها خوفا من أن تقترب. كانت هي من حرضت ابنيها على فعل ما فعلا فجعلت تصرخ: "أتقتل أبناء عمومتك أيها المجنون؟". "نعم أقتلهم وأقتل كل خائن ومتمرد على هذه الأرض، سأطهر أرضنا من الخونة وإن كان أخي لن أبالي. ورأفة بحالكن سأسمح لكن بتوديعهم قبل أن يُقتلوا". قال عدي تلك الكلمات بهدوء تام يوحي بأنه جاد في ما أراد. نظر الجميع إلى كمال متوسلين أن يوقف جنون ابنه، لكن صديقه فرحان همس له: "كوران يعرف ما يفعله، لقد ولد لأن يكون قائدا يضرب بيد من حديد". "لكن هؤلاء..". قاطعه فرحان: "الخائن يظل خائنا يا كمال". صمت كمال حينها، ليفاجئ الجميع بعدي الذي رفع مسدسه مصوبا نحو أبناء عمومته وقد اتخذ قراره. سمعه الجميع وهو يقول: "كونوا شجعانا يا أبناء قدري وارفعوا رؤوسكم إلى آخر لحظة في حياتكم وتحملوا ثمن أخطائكم بشجاعة". رفعوا أنظارهم نحوه غير مصدقين أنه حقا سيقتلهم، لكنهم تأكدوا من ذلك حين وجدوا صمت عمهم كمال وعدم اعتراضه على ذلك. ورغم صرخات الأمهات والأخوات إلا أن عدي لم يبال بذلك كله. لكنه تفاجأ كما تفاجأ الجميع بأدهم الذي وقف أمام فوهة المسدس وقال: "كوران، هذان أخواي وهذا ابن عمي وأنا مجبر أن أدافع عنهم، فإذا كنت مصرا أن تقتلهم فلتقتلني أولا". سار عدي نحوه وأمسكه من قميصه وقد انتفخت أوداجه من شدة الغضب: "عن أي إخوة تتحدث يا أدهم؟ أنت بالكاد رأيتهم، ابتعد عن طريقي، هيا". وحين رأى أدهم في عينيه إصراره على تنفيذ ما هم به نزع أسلحته ثم رماها على الأرض عند قدمي عدي وجلس على ركبتيه ثم حثه قائلا: "لتكن رصاصتك الأولى في رأسي، ولتجعل الأمر سريعا. لا حاجة أن أتذوق ألمها". صرخ عدي في وجهه وقد أُسقط في يده: "أدهم ابتعد عن طريقي حتى لا أقتلنك بحق". "افعل ذلك وأزحني عن طريقك". قال بثبات. عندها رمى عدي مسدسه وسار نحوه ووجه بركبته ضربة إلى بطنه أسقطته أرضا فلم يفكر للحظة أن يرحمه، ثم أمسك به وأوقفه مرة أخرى قائلا بغضب: "نحن في البداية أيها الحقير". ثم وجه له ضربة على بطنه وهو يصرخ: "تقف في وجهي وتلوي ذراعي أيها الحقير؟ حسنا، خذ نصيب ثلاثتهم". خارت قوى عدي فنظر نحو أدهم لحظة ثم استدار وغادر المكان تاركا أدهم يأمر رجاله أن يفكوا قيد ثلاثتهم. التقت عيناه حينها بعيني زوجة والده وأخته اللتان أسرعتا نحو أخويه لتساعداهما على النهوض بينما هو تم تجاهله تماما من أربعتهم. انحنى وحمل بقية أغراضه، لكنه تفاجأ بزوجة عمه كمال تسير نحوه ومن خلفها غادة، التي قالت له وهي تراه ينزف من كل مكان: "من المؤكد أنه جن لا محالة ليضربك هكذا". ضحك أدهم رغم تأوهه. "يجب أن تأتي معي حتى أضمد جراحك". "لا داعي لذلك، إنها جروح بسيطة وأستطيع تدبر نفسي". لتقول زوجة عمه معترضة: "من رأيي أن تدعها تتولى ذلك، فالجروح في كل مكان من وجهك". وافق حينها أدهم على مضض الذهاب مع غادة إلى الداخل، وهناك وقف أمامها مرتبكا وخاصة حين قالت: "هلا رفعت قميصك قليلا؟". "أفضل أن أضمد جراحي بنفسي". "لماذا؟". "لأنني اعتدت ذلك، لكنني لم أحب أن أرفض طلبا لزوجة عمي". "لما لا تدعني أضمدها لك هذه المرة على الأقل؟". "أخاف أن أعتاد". قال بكلمات متقطعة. "تعتاد على ماذا؟". "على الاهتمام، وأنا لا أحب ذلك". قال ذلك وعلى وجهه ابتسامة خفية. شعرت غادة أن تلك الابتسامة تخفي وراءها الكثير من الألم، فسألته بلطف: "وهل هناك من لا يحب الاهتمام؟". "نعم، أنا. أخاف منه". "لماذا؟". "أخاف أن أخذل، أن أغدر، أن أفقد، لهذا أختار البعد والنأي بقلبي وبنفسي". قال كل ذلك وقد تجرأ أن ينظر في عينيها مباشرة. "يبدو أنك ذو فلسفة مختلفة، لكن مع ذلك أنا مصرة أن أضمد جراحك، فأنت لم تعد وحيدا، أنت في وسط عائلتك". "أنا سعيد بوصولي إلى هنا أخيرا". قال ذلك وهو يستحضر شريط حياته كلها أمامه. ابتسمت له ثم اقتربت منه تنتظره أن يرفع قميصه لتضمد جراحه، فقد وقع عدة مرات على الأرض مما تسبب في جروح بيديه وأماكن متفرقة من جسده بالإضافة لوجهه وشفته كذلك. قامت بذلك بينما ظل هو هادئا وصامتا على غير عادته، فكسرت حدة الصمت حينها: "ما بك؟ لما أنت هادئ هكذا؟". "لا شيء، فقط أفكر متى ستنتهي فلدي بعض الأعمال التي أريد إنجازها باكرا". " انتهينا، لكنك لن تذهب إلى أي مكان قبل أن أحضر لك طعام الإفطار". "إن كان كذلك فسأنتظرك هنا إذا". خرجت غادة من فورها تقصد المطبخ بينما أغمض هو عينيه مرتبكاً.

أبناء النار و الجبال ( مكتملة ) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن