الفصل الرابع عشر

477 44 38
                                    


( الوقت الحالي . . )

جلست شيلان على طرف السرير تنظر للشيء القابع على سريرها وتفكر بمن أدار ظهره لها مذ عام ونصف ولم يلتفت ولا لمرة واحد. لقد مرت كل تلك الفترة دون أن يسأل عنها أو يهاتفها. بينما كان الجميع يتصل بها بين الحين والآخر لكنه الوحيد الذي لم يفعل كأنها حملاً وأزاحه أخيراً. رغم أنها تخطت مرحلة الأمل في عودته إلا أنه كان هاجسها الذي لم تنسه يوما. لقد بهت كل شيء من حولها وتشابهت الأيام والليالي. كان الأمر شاقا عليها ولم يكن لها من أنيس.

***


وقف شاهين ينظر إلى بزوغ الفجر الأول لفصل الخريف بعد كل عناء الصيف وما ألحقه بهم. أغمض عينيه وملأ رئتيه من نسيم الفجر المنعش فشعر بقشعريرة سرت في جسده كله. شد حوله معطفه الأسود الطويل الذي كان آخر ما اهدته شيلان عندما زارا الشمال قبل ثلاثة أعوام . نظر نحو السماء حزيناً عابس الوجه يفكر في الشوق الذي مزق قلبه شر تمزيق متمنياً أن يعرف حالها من بعده. فقد مر عليهما عامين كاملين، هل تعاني مثل ما يعاني يا ترى؟ كم حاول أن يعرف سبب تغيرها المفاجئ والصمت الذي أصابها في آخر أيامهم بالجنوب لكن بلا فائدة. تمنى أن تخبره ما الذي اقترفه في حقها وحق حبها لتقطع حبل الود والألفة بينهما هكذا! قلب نظره نحو الجبال الشاهقة التي كادت قممها تلامس أطراف السماء. كان المكان غاية في الجمال وروعة الطبيعة، ولم يكن ينقصه إلا هي. رأى عمه فرحان يغادر ثكنته فقد كانوا يقطنون مؤخراً في أحد المعسكرات التي تم الاستيلاء عليها والتي يتم منها قذف الصواريخ قريبة المدى على الجنوب. لقد حصلوا عليها حين استيلائهم على المعسكر وأسر الجنود الجنوبيين الذين تم إجبارهم على تعليم وتدريب الشماليين كيفية القيام بذلك مقابل إبقائهم أحياء. كان شاهين أحد أولئك الذين تعلموا إطلاق الصواريخ وكيفية تسديد الأهداف وهكذا بقي هو وعمه في أخطر معسكر بالنسبة للجنوبيين. "صباح الخير يا عمي". استدار فرحان إليه مرتبكا لكنه حاول أن لا يظهر ذلك وسأله: "ما الذي تفعله هنا في هذا الصباح الباكر يا بني؟". "خرجت لأتفقد الرجال والمكان". أثناء ذلك وقف رجل في المقابل منهم وأخبر العم فرحان أن السيارة جاهزة. تفاجأ شاهين بذلك وعقد حاجبيه وهو يسأل عمه قلقا: "إلى أين أنت ذاهب يا عمي؟ ولماذا لم تخبرني أنك ستغادر؟". "لأني ظننتك نائماً". قال وهو يحاول أن يخفي ارتباكه مرة أخرى. "سامحك الله يا عمي، ما هذا الذي تقوله؟". قال شاهين معاتبا. ابتسم العم فرحان له وهو يفكر كيف سيخبره بما يخفيه عنه فتمنى ألا يصر عليه كي يعرف وجهته. فقال حينها: "عُد وأكمل عملك يا بنيّ حتى موعد عودتي". "وأنت، أين ستذهب؟". لقد كان السؤال الذي خشي سماعه لكنه تظاهر بتجاهله وهو ينظر إلى ساعته ويقول على عُجالة: "ليس الآن يا بنيّ". ثم سار مسرع الخطى نحو السيارة التي ستقله. شعر شاهين بأن أمرا خاطئاً يحدث وأن عمه يخفي سرا وراء تلك العجلة. دب الخوف في أطرافه من أن يكون أحد أفراد عائلته قد أصابه مكروه فسار خلف عمه مسرع الخطى وطرق النافذة. جعل يصر عليه كي يستفسر منه عن وجهته كي يطمئن قلبه، فتنهد العم فرحان وقال: "سأذهب لزيارة شيلان". قفز قلب شاهين لمجرد ذكر اسمها، لكن فزعه ازداد وهو يفكر؛ ما الداعي لذهابه إليها إن كانت في حالة جيدة؟ هل يعني هذا أنها أصيبت بمكروه؟ وما إن بدأ يسأل عمه حتى صُدم بجوابه. تمنى لو أن الأرض ابتلعته قبل أن يتلقى الجواب. لقد تصلبت قدماه وهو يسأل على غير هدى: "هل ستجبرها على هذا الزواج كما حدث سابقاً؟". نظر إليه عمه ورأى ما أصابه حين سمع الخبر فأشفق على حاله وما يمر به، لكنه فكر أن الحرب ستكون كفيلة بأن تنسيه إياها، وخاصة أن ليس هناك طفل يربطهما. كما أن كلاهما سيكون بعيداً كفاية عن الآخر. فأجابه قائلا: "لا علاقة لي بزواجها هذه المرة يا بنيّ. ليلة البارحة هاتفتني عمتك رقية وأخبرتني أنه زميل لها يعمل في المستشفى التي تعمل فيه واسمه الدكتور جهاد مسعود". "جهاد!". "هل تعرفه؟!". كاد شاهين يقع من طوله وهو يفكر في كل ذلك. لقد وقعت في حب زميلها إذا! هذا ما جعلها تتغير ولا تعود تسأل عنه. ربما انشغل عنها بعمله لكن ذلك لا يعطيها حق الخيانة بكل قذارة هكذا. كيف استطاعت أن تطعنه وسط قلبه بسهولة؟ ولأول مرة كره أن يرى عمه ضعفه أو اهتمامه بتلك الخائنة رغم النار المشتعلة بداخله فاستعاد رباطة جأشه وارتدى قناع البرود الخاص به وقال بصوت واثق لم يدر من أين استمده: "أوصل لها سلامي وتمنياتي لها بالسعادة، وأخبرها أنني سأكون موجودا حين تكون في حاجة لأخٍ، فيكفيني أنها ابنة أغلى اثنين على قلبي". ثم استدار وسار مبتعداً يُكمل عمله بتفقد رجاله بينما غادر عمه المعسكر وهو لا يفكر أن يوصل إليها مما قيل شيء حتى لا يوقد جذوة ذاك الحب. أنهى شاهين عمله على الوجه الأكمل ثم عاد إلى مكتبه الذي كان غرفة نومه أيضا. لكن ما إن أغلق الباب وجلس على مقعده حتى شعر أن عينيه بدأتا تغرورقا بالدموع. كيف تسيل تلك الدموع على من لا يستحق؟ أخرج دبلتها التي ترافقه منذ أن قذفتها في وجهه مع سلسالها الذي اشتراه لها وهي في الرابعة عشر. لقد تأكد الآن لماذا غادرته هكذا وقامت بكل ذلك التمثيل من حزن وغضب. يبدو أنها لم تجد طريقه غير تلك فقد كانت تعلم مدى تعلقه بها وربما خافت من مواجهة والديها، إضافة لأخويه. الآن ها هما العاشقين قد اجتمعا بفضل الحرب الذي قدم هو وإخوته والجميع فيها أرواحهم فداءً لوطن يجمعهما. ما أحمقه حين كان يعتقد أنه طيش شباب وستعود لرشدها يوما ما، يا لسذاجته!

أبناء النار و الجبال ( مكتملة ) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن