٨_مُذَكَّراتُ الصَّبِيّة: فُقدَانُ عَزِيزٍ.

185 23 3
                                    


ضلّ جالِسًا داخِلَ سيَّارَتِه، يتَصَفَّح المُذكَّرَاتِ بعينَانِ ثاقِبة، يتجوَّل بَين التَّواريخِ المَخطَوطَةِ قارِئًا تِلكَ الكلِمات بأنفاسٍ هادِءة...

الثّالِث مِن كَانون الثّاني،
السَّنة السَّادِسَةُ عَشر بعدَ الألفَين:
مَرَّت سنتَانِ كَامِلتانِ منذُ وفاةِ والِداي، ولا أزَالُ تائِهةً وسطَ حُطامِ الإنكَار، لازِلتُ أنتضِرُ دلوفَهما مع كَعكَةِ مِيلادِي، لازِلت آمُلُ أنَّهُ كَابوسٌ طالَ سينتَهِي حِين يمسحُ أبِي على رأسِي، وحِين تتمسّكُ أمّي بكفّي مُبتسمةَ، لازالَت خَيبةُ الأمَلِ تخيِّمُ علَى أضلُعي، ولازالَ النّدمُ يُبكِي أنضَارِي، لازِلتُ الطِّفلةَ المُنتضِرةَ، ولازالَ والِداي غائِبان...


العِشرُونَ مِن كَانُون الثَّاني،
السَّنةُ السَّادسَةُ عشر بعد الألفَين:
أََخبَرنِي طَبِيبٌ أنّ أخِي باتَ مُدمِنَ تدخين، آثَارُ مُخدّراتٍ تجوبُ دماءهُ النّقيَّة، وهالاتٌ تُشوِّهُ أسفلَ عَيناهُ البرِيئة، أخبَرنِي أنَّهُ مَرِيضٌ، أن رئتاهُ تضعُفُ بسببِ ما يتعاطاهُ دونَ توقُّف، توسَّلته أن ينقِذَهُ مهما كَان الثٌمن، لكنَّه تنهّد بأسَفٍ حِين أخبَرتهُ أنّ لا مالَ لي، رَحلَ وتركنِي وسَطَ الرَّواقِ هُناكَ أبكِي بقهرٍ، لازِلتُ فِي السَّادسة عَشر، لِما كلُّ ذلكَ يحدُثُ لي؟

الثَّانِي والعِشرُنَ من كَانون الثَّانِي،
السَّنة السَّادِسَة عشر بعدَ الألفَين:
طُعِنتُ مَرَّاتٍ لا تُحصى، تألّمتُ ثم لملمتُ بقايايَ رَغمَ ضُعفِ ذِراعاي. أخبَرنِي توأمي أنَّنِي السَّببُ فيما يحدُثُ معه، أنا سبب إدمانِهِ وسببُ إرهاقِه، لأنَّني السّبب فِي موتِ والِداي، كَانت تِلكَ أكثَر طَعنةٍ آلمتنِي مِن بينَ الآلاف، كَانت مِن الذِي أرهقتُ روحِي حَتّى أُطعِمه، أهملتُ ذاتِي حَتّى ينامَ مُرتاحَ البالِ تحتَ سقفِ بيتِه، كَانت مِن رَجُلٍ لم أتوقَّعه، مَن انتضَرتُه أن يحمِينِي من قَطِيع الضّباع، كَان مَن غَدى ضَبعًا وأذَانِي...


الأوَّل مِن شُباط،
السّنة السَّادِسةُ عشر بعد الألفَين:
أنهَيتُ كلَّ صدَاقاتِي مع بدَايةِ الشّهر، لم يعُد لِي أحدٌ سِوى أخِي الذِي يلُومُني بلسانِه ثمّ يعودُ مُعتذِرًا بأنضارِه، حَتَّى الفتَى الذِي كُنت أعتمِدُ عليه تَركتُهُ فِي سبِيله حَتّى لا أكونَ شَضيّة مُؤلِمةً في حياتِه. غدَوتُ يتيمةَ الوالِدَينِ ومَقطوعَةَ الرّفاق، لا يَلحقُنِي سِوى كَلمات جارِحةٍ وأنضارٍ مُشفقة، أسيرُ عُمقَ نَفَقِ العتمَة ولا بَصِّيصَ نورٍ يلوحُ نِهايَتهُ.


الثَّانِي عَشرَ مِن آذار،
السَّنة السَّادِسةُ عشر بعد الألفَين:
فِي طَريقِي للبَيتِ اليوم، توارَت خَلفَ مسامِعي كَلماتٌ غدَت صِفتِي، الجَميعُ يدعوني ببائعة الهوى لأنَّنِي أذهب للعمل في مُنتصفِ اللّيلِ وأعودُ قُرابَةَ الفَجر، رأيت أنضارًا ساخِرةً وأُخرَى شَهوانِية، مَن يتحرّشُني بأعيُنه قَبل كَلِماتِه ولمساتِه التّي تحرِقُ جَوفِي وتذبَحُني ألفَ مرّة، إنزوَيتُ في بَيتِي لأيَّامٍ مُتتالية، تغيّبت فيها عن العَملِ وعن المَدرسة، إنزويتُ أُراقِبُ جُروحِي التي لا يَراهَا أحدٌ سِواي. إكتأبتُ وتألمت، بكيتُ حَتّى احترقَ جَوفِي، وما مِن أحدٍ يَسمعُني، لا أخِي الذِي يَذمّني بدلَ ضمّي، ولا نَفسِي التي باتت تمقتُني.

نُطفةٌ مِن أُخرَىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن