كانت الحركة مستمرة و كل شيء يتم بنظام و ترتيب شديدين، منذ بدء إستقبال المعزيين قبل ساعة واحدة بعد صلاة العشاءخارج أسوار القصر المنيف، تراصت سلسلة من السيارات الفارهة تعود ملكيتها لأكبر عائلات الطبقة الرفيعة على مستوى الدولة، أما داخله إقتسمت الجموع الغفيرة أماكنهم، فالرجال يقدمون التعازي بصوان فخم قد نُصب بالحديقة الشاسعة ذات الهواء الطلق، بينما النساء يجلسن بالداخل بالمضافة الضخمة المُعدة أصلًا لإحياء المناسبات
و لكن يا لها من مناسبة منكوبة تلك التي تقيمها عائلة "البارودي" الليلة... رغم حزنهم العظيم، إلا أنهم حتمًا يخرجون بأحسن صورة دائمًا بشتى المواقف التي تنزل بهم، يسيرة كانت أو عسيرة
لم يكن هناك خطأ واحد، الجميع يتقيد بتعليمات سيد المنزل الجديد و الصارم جدًا حتى قبل أن يعتلي مكانته الحالية بعد وفاة الأب الكبير للعائلة.. "سليمان البارودي"
الآن هو الكبير، وحده لا غيره.. يستأثر بذلك المقام، لم يؤهله سنه فقط، بل فطنته و شخصيته الفولاذية و أشياء أخرى شكلت حوله هالة من المهابة و الإجلال سرعان ما أفضت به إلى عوالم السلطة و النفوذ
إنه "هاشم البارودي" بالطبع، الفرد الأكبر المتبقي من عائلته العريقة بعد أن توفي والده و أعمامه الواحد تلو الآخر بصورة متتابعة مثيرة للفزع، كانت وفاة كل منهم طبيعية.. لكنها بالتأكيد لم تكن منطقية.. أن يموت رجال العائلة جميعًا، بالتحديد أبناء الأب الكبير على بعد مسافات متساوية خلال العشرة أعوام المنصرمة
و حاليًا لم يكن "هاشم" الذكر الوحيد بعائلته، هناك أبناء عمومته لكنه الآن سيدهم طبقًا للقانون المتوارث عبر الأجيال.. و لكن أليست الأجيال القادمة مهددة الآن ؟ .. ربما لم تثير تلك الأفكار ذعر ذكور العائلة حين مات العم الأصغر قبل عشر سنوات، لكن حين توالت وقائع الموت من عم لآخر حتي إختتمت بالجد العجوز صبيحة اليوم
أبدى الجميع خوفهم الشديد لئلا يأتي الدور عليهم أيضًا.. لكنه لم يكن خائفًا مثلهم على الإطلاق، بل على العكس، كان يتمنى لو أن الدور من نصيبه هذه المرة، إذ لم يعد يستسيغ حياته برمتها، بعد أن كُتب عليه أن يسير بجنازات أقرب الناس و أحبهم إليه.. منذ ست سنوات أهال الثرى على جثمان أبيه بيديه، و قبل عامين كرر الأمر مع زوجته و أم طفلته التي فُطمت حديثًا عن الرضاعة.. أما اليوم، ها هو يأخذ عزاء جده متمسكًا بصلابته و بروده المشهور، حاجبًا حزنه و ضيق صدره خلف ألف باب موصدٍ بداخله
هكذا كان دائمًا، قاسيًا، بارعًا في التحكم بمشاعره.. فهو لم يكن يومًا بذلك الرجل رقيق الطبع، بحكم تربيته و نشأته هنا وسط أُناس وصل بهم الجشع و حب المال و تقديسه إلى الزواج من بعضهم بعض، فهنا بعائلة "البارودي" جميعهم أبناء عمومة و أقارب من الدرجة الأولى، و ليس هناك حرية إختيار في هذا الصدد، شئت أم أبيت لن يختلط نسب العائلة بأعراق أخرى مهما حدث !
أنت تقرأ
كيف أقول لا!
Romanceلم يتبقّى سوى أيامٍ على ليلة زفافها، كابوس عاشت به منذ نعومة أظافرها، متاهة بلا نهاية خالت بأنها ستظل حبيستها للأبد، لكن.. لا شيء يدوم للأبد و جاء اليوم الذي صرعت فيه هذا الكابوس، و كسرت قيودها و غادرت المتاهة، لم يكن هذا بلا ثمن بالطبع فقد كابدت أب...