١

388 26 0
                                    


١

مثلما هبّ موسى بن عمران في وجه الفرعون .. مثلما هبّ في وجه هامان وقارون ؛ هبّ موسى بن جعفر في وجه هارون .. هارون الذي قال جدّه من قبل : إنّما أنا سلطان الله في الارض ... انه ظلّ السماء في الارض ... انه مشيئة الله وإرادته ...

من أجل هذا نهض موسى بأمر الله ليقول لهارون لا .. جاء ليطالب بفدك .. فدك التي كانت يوماً ما بقعة صغيرة فوهبتها السماء الى فاطمة لتكون نحلة لها .. لتكون ارثاً .. ولتكون فيما بعد رمزاً للميراث المغتصب والحق المقهور .. رمزاً لكل الارض الاسلامية.

من أجل هذا نهضت فاطمة بنت محمد ... لتطلب حقها في فدك.

ما اصغر فدكاً فوق الارض .. وفي الجغرافيا .. وما أوسعها في خارطة التاريخ؟‍‍‍‍‍!

اهتزت المدينة من اقصاها الى اقصاها فقد جاء موسى يطلب ميراث جدّته البتول ... جاء يسترد فدكاً بحدودها العجيبة : من عدن الى سمرقند الى أفريقا الى سيف البحر مما يلي الجزر وارمينيا ...

اشتعل هارون حقداً .. ان موسى يهدد عرشه .. كنوزه .. وقصوره سلطانه ودولته ...

وقفت فاطمة بسنيها الستّ تترقب عودة أبيها الذي خرج عند الفجر ولم يعد .. ليست فاطمة وحدها كانت تنتظر عودة الرجل الأسمر الذي يحمل في وجهه طيوف النبوّات .. بل المدينة بأسرها كانت تترقب ما يريد هارون من موسى ..

كانت تنتظر الى شقيقها علي وقد بدا وجهه سماءً تنوء بغيوم حزينة .. أدركت فاطمة أن أباها سيغيب ولعلّه لن يعود .. ربّما لن تراه ولن تسمع صوته الدافئ .. شعرت فاطمة بالبرد .. بالخوف يملأ أعماقها .. امتلأت عيناها بالدموع حزناً ..

ان موجات الحزن أعمق تأثيراً من هزّات الفرح .. إنّها تحفر أماكنها عميقاً في الذاكرة .. ولا شيء أخلد في دنيا الطفولة البريئة من مشاهد اليتم ..

لقد فقدت فاطمة امها قبل أن تعى ما حولها من الدنيا وها هي تشهد العاصفة .. عاصفة القدر عندما تنتزع الأيدي الغليظة أباها الرحيم من أهله وبنيه ، لتثقله بالقيود والأغلال ..

نظرت فاطمة الى أخيها .. خُيّل اليها أنها ترى سماءً مثقلة بالغيوم ... الله وحده الذي يعرف اغوار الحبّ الذي تتدفق ينابيعه الصافية في قلب فاطمة .. فاطمة التي شهدت بأمّ عينيها عاصفة الزمن المرير ..

لقد بدأ زمن الشتات .. زمن التشرّد .. زمن تصبح تهمة الزندقة فيه أهون بكثير من أن يقال هذا من أبناء علي .. من أحفاد محمد ...

هارون يخشى موسى .. يخشى كلماته ... إنّها صدى لكلمات محمد ... لخطب علي.

وقفت فاطمة تودّع من بعيد قافلة أخذت طريق البصرة ـ وقد خفق قلبها الى قبّة تحفّها سيوف ورماح .. ان قلبها لا يخطئ ..

غابت القافلة في الأفق البعيد .. وكانت السماء ما انفكّت تمطر على هون.

عادت فاطمة مع شقيقها علي .. عادت تجرجر نفسها وخطاها الى منزل بدا في ذلك الصباح الغائم خيمة مزقتها رياح الزمهرير .. لقد رحل الاب .. انهار عمود الخيمة .. رحل السلام .. وربما دون عودة نظرت فاطمة الى السماء المثقلة بالغيوم .. والمطر .. انبسجت دموع طفولية من عينيها .. دموع تشبه مطراً حزيناً راحت تتساقط بصمت.

يالوعة اليتم في قلوب اليتامى .. ويا لقسوة الزمهرير ، زمهرير الخوف ... الخوف من المجهول ..

عندما يرحل الأب تصبح الدنيا برداً وصعيقاً .. تصبح بلا شمس .. بلا دفء ولا نور.

الطريق إلى خراسان حيث تعيش القصص. اكتشف الآن