١٣

39 8 1
                                    


إنّ أحداً لن يصدّقني :

قال الجندي ، وهو يغمس كسرة خبز في لبن رائب ، ونظر اليه رجل قروي جاء الى خان القوافل من قرية بعيدة :

قال له مشجعاً إيّاه على الحديث :

ـ أنا اصدّقك تكلم لا أريد أن أعود الى قريتي دون حكاية أرويها لاحفادي.

تلفّت الجندي حواليه بحذر وهمس :

ـ ان القائد يمنع علينا الحديث عن علي بن موسى ، أمرنا أن نكون صُمّاً بكماً فهم لا يفقهون ... لقد رأيت الأعاجيب ..
أتصدّقون إذا اخبرتكم بما حصل في البادية؟ صدّقوني لم أكن نائماً .. كنت متعباً فقط وأصحابي خلدوا للراحة ، ناموا جميعاً ، وكنت على وشك النوم عندما رأيت غزالة .. قادمة من بعيد كانت مبهورة الانفاس عرفت أن الصيّادين يلاحقونها ..

كان علي بن موسى يتوضّأ للصلاة ، لم تكن الشمس قد زالت بعد عندما وقفت الغزالة قريباً منه .. ربّما شمّت رائحة الماء وهو ينثال على الأرض ..

نظرت اليه ، تقدمت نحوه أردت أن أنهض لاصطيادها ولكنّي جمدت في مكاني .. رأيتها تتقدم الى علي ، عيناها تتألقان.

مدّ علي كفه اليها ، فتقدمت أكثر .. أمر عجيب أليس كذلك ،مسح ابن موسى على رأسها ورقبتها وقدم لها اناء الماء فشربت حتى ارتوت ولاذت بثوبة الأبيض عند قدميه .. هل يمكن أن يحدث مثل هذا في اليقظة؟! هل يمكن؟!!

فجأة دخل جندي باب الخان وراح يستعرض الوجوه بناظريه وعندما وقعت عيناه على رفيقه :

ـ اما تزال تأكل ، القافلة على وشك السير .. هيّا.

وعندما خرجا قال :
ـ ان مهمتنا ستكون صعبة وسط آلاف البشر .. لكأنه يوم الحشر ..

مئات الألوف من البشر من نيسابور وغيرها تحدق بالقافلة وتتجه الأبصار الى ناقة بالذات عليه عمارية ، وفيها رجل تخفق بحب القلوب.

وبدت تلك النقطة مصدراً للسلام ، والحبّ ، لكأن قلباً هناك يشع مثل نجم كبير .. يشع بالدفء والمحبة ... لماذا يبكي البعض؟ لما تجري الدموع؟ أهي دموع شوق النبي في ذكراه؟! أهي دموع حبّ .. أم حنين للعودة الى الماضي المشرق؟!

هل كان منظر علي بن موسى بثيابه البيضاء البسيطة بعمّته التي لا تعدو أن تكون قطعة قماش مورّدة لا فيها درّة يتيمة ولا جوهرة عظيمة .. هل رأى الناس ذلك الصباح صورة الرسالة الالهية كما أنزلها الله قبل قرنين من الزمن؟!

لا أحد يعرف تفسيراً لهذا الحشر ، لهذه الدموع .. لهذا الحبّ المتدفق؟!

القافلة على أهبة الاستعداد للانطلاق صوب طوس ومنها الى سرخس ٦٧ فالعاصمة مرو.

واحتشد مئات الألوف من نيسابور وغيرها وتجمهر
عشرون ألف أو يزيدون بأيديهم محابر ودوى وأقلام مشرعة ؛ وانبعث إرادة توحد القلوب تنشد كلمة مقدسة توارثها أبناء محمد.

وظهر الوجه الاسمر متألقاً كقمر يشرق من وراء غيمة نديّة.

وتدفقت موجه من بكاء لا يُعرف تفسيره أحد ، وهتف رجل يحفظ عشرات الاحاديث :

ـ أيّها الناس! انصتوا وعوا لعلّنا نسمع موعظة ، أو نفيد في الفقه مسألة ، أو نصيحة تزهّدنا في الدنيا وترغّبنا في الآخرة.

ولكن ما حدث لم يكن متوقداً أبداً ، ففي لحظات تذكّر بحادثة قديمة وقعت في طريق القوافل بين مكّة والمدينة ، هتف الرجل الأسمر كأنه يخطب التاريخ والأجيال :

ـ سمعت أبي موسى بن جعفر يقول : سمعت أبي جعفر بن محمد يقول : سمعت أبي محمد بن علي يقول : سمعت أبي علي بن الحسين يقول : سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول : سمعت النبي يقول : « لا اله الا الله حصني ، فمن دخل حصني آمن من عذابي.


وغاب القمر وراء العمارية ، وفيما كان الناس في ذهول لسند لم يسمعوه من قبل تمتم أحدهم قائلاً :

ـ « لو قرئ هذا الاسناد على مجنون لبرئ » ٦٨.

وتمنى آخر لو كان له مال أن يكتبه بماء الذهب ٦٩.

ومرّت الناقة كزورق ينساب على هون ، ولكن الرجل الاسمر أراد أن يكون للحديث دويّاً ، أن مسألة التوحيد لن تكون أساساً للحياة الكريمة الا اذا أُرسيت على قاعدة صلْبة ، فظروف الحياة المريرة ستدفع بالانسان بعيداً عن الطريق المنشود.

من أجل هذا ظهر الوجه الأسمر مرّة أخرى ليهتف مؤكداً حقيقة منسية :

ترى ماذا حصل في ذلك الحشد؟ إنّ للكلمات المقدسة فعل الفأس تحطم وتبني ، فعل الفأس التي حطمت الاصنام في معبد نمرود لتؤسس حقيقة التوحيد الكبرى.

عندما هبط محمد من فوق جبل حراء كان يحمل معه فقط كلمة واحدة وهي لا إله الا الله!

كلمة حطّمت فيما بعد هبل واللات والعزّى ومناة الثالثة

الأخرى.

ها هو حفيد محمد يعلن كلمة التوحيد ، ويعيد اليها ذات الروح المحمدية التي يتوارثها أبناؤه جيلاً بعد جيل.

لو سمع الرشيد بما يجري لتميز من الغيظ ، فهذا الفكر المطارد ، والذي ظن أنه قد قضى عليه الى الأبد يعود قويّاً واضحاً مرّة أخرى.

وفي تلك البقعة من نيسابور والقافلة على وشك الرحيل جاءت صرخة الحق ، وراح أهل الإرجاء ٧٠ وأصحاب الاعتزال ٧١ ، وعلماء الحديث يضربون أخماساً بأسداس ، فالامامة عهد الهي ، والامام شرط من شروط التوحيد الحقيقي.

انه يستمد ولايته من السماء لا من الأرض.

وانطلقت القافلة لتتحول الكلمات الى إعلان سماوي لأهل الأرض؟.

الطريق إلى خراسان حيث تعيش القصص. اكتشف الآن