٨

37 2 0
                                    

كان منظر الغروب سخيّاً بالوانه الشفافة ، برتقالي ذهبي ، وأحمر متوقد كموقد شتائي يزخر بالجمر ... والمشهد السماوي يبدو ساكناً غير أن السحب المتناثرة في سماء زرقاء كانت تتحرك على هون كزوارق غافية في بحيرة هادئة.

الرياح الخريفية تجوس خلال البيوت وتبشّر بشتاء قارس طويل.

كانت فاطمة تتأمل وجه شقيقها ، انها لم تره مهموماً كهذا المساء ، لكأنه ينوء بجبال من الحزن ، لا تدري لماذا توهجت مشاهدة قديمة .. قديمة جداَ ، يوم أخذوا أباها ، وأدركت حينها انها لن تراه بعد اليوم ... ربما عرفت ذلك في وجه شقيقها الذي بدا في تلك اللحظات سماءً مثقلة بمطر حزين.

كانت الرسالة التي استلمها الامام اشبه شيئاً بعسل مداف بسم ، ملساء كأفعى مترعة بسموم قاتلة.

الفضل بن سهل يعرف كيف يروغ بين السطور ورسالة محيّرة من أكبر مسؤول في الدولة تطلب منه مغادرة يثرب على وجه السرعة لتسلّم مسؤوليته في الخلافة ٤٢!

وتساءلت فاطمة عن سرّ هذا الحزن؟ كانت تعي لواعج الانسان الذي يفكّر في المديات البعيدة حيث تتجسد كل آلام الانبياء وأحلامهم. ان المأمون ولا شك قد عرف مصدر التحدّي الحقيقي ، فوجد في شخصية مثل الامام سوف تكشف للرأي العام مدى الانحطاط الاخلاقي للحاكمين ، كما ان بعد المدينة المنورة عن « مرو » سيوفر للامام قدراً من الحرّية ، وفي هذا خطر على مؤسسات الحكم القلقة التي ما تزال تهتز تحت وقع الاضطرابات والثورات.

فاستدعاء الامام الى مرو يعني أن المأمون يضرب عشرات العصافير بحجر واحد.

تمتم الامام بصوت فيه حزن الميازيب في مواسم المطر :

ـ ان المأمون يريد أن يقول للناس أن علي بن موسى لم يزهد بالدنيا ، وانما الدنيا هي التي زهدت به أرأيتم كيف يسرع الى « مرو » لما عرضت عليه الدنيا؟!

ولكن هيهات لا أقبل شيئاً من عروضه!

ادركت فاطمة أن أخاها يواجه ثعلب بني عباس ، ليس هناك من يفوقه مراوغة ومكراً .. عرفت ذلك من حزن الامام ، ومما تسمعه من الأخبار.

ان لأخيها من المحبة في خراسان وأطرافها ما ليست لغيره ، فلو جعله المأمون في الحكم فان ذلك سيضمن له ولاء كثير من الاقاليم ؛ وسيكون المأمون قد اثبت للأمّة أنه قد حقق أعزّ أمانيها.

وطرق خادم باب الحجرة :

ـ ان رجلاً يقول انه رجاء بن الضحاك يروم لقاءك الساعة.

التفت الامام الى اخته :

ـ هذا رجل بعثه المأمون فيما لا أحب .. انا لله وانا اليه راجعون.

الطريق إلى خراسان حيث تعيش القصص. اكتشف الآن