١٠

38 5 0
                                    


مكة مهوى الأفئدة تستقبل حفيد محمد ذلك الصباح المشرق ، وشمّت النوق رائحة وطن قريب.

مثلما تطفو الفقاعات كانت الاسئلة تظهر على الشفاه فلم يكن الموسم عمرة ولا حجاً ، ولم تكن القافلة قادمة من اليمن ولا من الشام ... ولم يكن رجاء بن الضحّاك الذي أمر بمرافقة القافلة حتى مرو ، ليتحدث الى أحد ، ولم تكن مهمة الجنود وهم لا يتعدون عدد الاصابع لتعدو الحراسة من بعيد!!

اتجه الامام فور وصوله الى الكعبة وتبعه معظم افراد القافلة.

للكعبة في نفوس المؤمنين منزل في القلوب ، تكفى
طلعتها البهية في تفجير مخزون الحبّ والشوق ، وعاطفة الايمان حتى اذا وقعت الابصار عليها ، تجمعت في العيون دموع شوق يكاد يطير بالمرء الى سماوات بعيدة.

وطاف الامام حول البيت العتيق الذي بدا في تلك اللحظات المفعمة بالايمان مركزاً للوجود بأسره.

وكان ابنه الذي بلغ السعي يطوف معه ، حتى إذا اتجه الأب الى مقام ابراهيم ليتخذه مصلّى ، كان محمد ابنه ينطلق الى حجر اسماعيل ليجلس هناك ... في ذلك المكان المفعم بالذكريات القديمة.

راح الصبي يراقب أباه وقد غمرته الفجيعة ، مثل حمامة تبحث عن عش آمن بدا علي بن موسى وهو يطوف حول الكعبة ... وكان الصبي الذي أدرك برغم سنواته السبع كل معاناة أهل البيت منذ قرنين من الزمن ، قد تيقن بان أباه لن يعود من سفره ، انه يودّع الكعبة الوداع الأخير ، انه لن يعود اليها كما لن يعود الى مدينته في الشمال.

وطال جلوس الصبي في حجر اسماعيل ، لكأنه يجلس في مأتم أبدي ... إنه لا يريد أن يفارق مكانه.

وجاء « موفّق » الخادم ليطلب منه النهوض ، فقد توسطت
الشمس كبد السماء وراحت تصبّ اشعتها اللاهبة في واد غير ذي زرع.

ويرفض الصبي كعصفور كسير الجناح لا يريد مغادرة عشّه ولم يكن أمام موفّق الا أن يتجه الى سيّده ويطلعه على الأمر ... وجاء الأب يتفقد ابنه ويطلب منه النهوض فقال الصبي وهو يختنق بعبرته :

ـ كيف أقوم وقد ودّعت يا أبتي البيت وداعاً لا رجوع بعده؟!

وأراد الأب مواساة ابنه ولكنه اختنق هو الآخر بما انفجر في اعماقه من ألم مكبوت.

وكأن منظرهما يذكر بمأساة ابراهيم الخليل يوم ودّع إبنه الوحيد في الوادي المقفر.

وتحوّل المكان الى مناحة جماعية شارك فيها معظم أفراد القافلة ، واجتمع بعض أهل مكّة ، واصبح سفر الامام الى مرو مقهوراً خبراً على الشفاه في كلِّ مكان.

وعندما أراد بعضهم وقف المناحة فقال الامام :

ـ دعوهم ينوحوا فانني لن أعود وسأموت غريباً بعيداً

عن احبتي.

وعندما كان الامام يستعد لمغادرة المسجد الحرام تقدم اليه رجل يدعى ابراهيم وقال :

ـ تاهت بي السبل يا بن رسول الله فأين الطريق؟

قال الامام وهو يضيء قنديل في قلب الرجل الحائر :

ـ اخبرني أبي عن آبائه عن رسول الله عليه‌السلام قال :

« من اصغى الى ناطق فقد عبده ، فان كان الناطق عن الله فقد عبد الله ، وإن كان الناطق عن ابليس فقد عبد ابليس ».

يا بن أبي محمود إذا أخذ الناس يميناً وشمالاً ، فالزم طريقنا فانه من لزمنا لزمناه ، ومن فارقنا فارقناه ، فانّ أدنى ما يخرج به الرجل من الايمان أن يقول للحصاة : هذه نواة ثم يدين بذلك ويبرأ ممن خالفه.

يا بن أبي محمود احفظ ما حدثتك به فقد جمعت لك فيه خير الدنيا والآخرة ٥٧.

وانطلق ابراهيم وقد اشرقت في قلبه أنوار المحبّة ، للجميع انه لن يؤمن بشيء حتى يعرفه على حقيقته.

اين المرجئة؟ وأين المعتزلة ، وأين الخوارج عن هذه
الكلمات؟ كلمات تضيء كقناديل في ظلمة الطريق البهيم.

وتقدّم رجاء من الامام ليطلعه على جانب من مهمته :

ـ ان معي أوامر من الخليفة بالسفر وحدك الى مرو ، وأن يكون الطريق على البصرة فشيراز.

نظر الامام الى الكعبة نظرة أخيرة ، وكان سرب من الحمام يحلّق بسلام وتمتم في نفسه :

ـ « الغوغاء قتلة الانبياء » ٥٨.

ومرّ يومان آخران وقد أزفت ساعة الرحيل ، وآن للرجل المكي المدني أن يودّع ربوع طفولته في الأرض السمراء الى الارض التي تطلع منها الشمس.

وقف الامام يودّع أسرته ، وقد أطال حديثه مع شقيقته فاطمة لكأنه يودعها أسراراً غاية في الأهمية ، وكان الاطفال اكثر فجيعة ، وانبعث بكاء يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر.

وأدرك الذي حضروا المشهد أن علي بن موسى يعيش مأساةً لا يعرفون أسرارها ... إنّ جُلّ ما فهموه أن هذا الرجل لا يرغب بما يعرضه المأمون خليفة العصر.

يا لمجد الانسان عندما يرى نفسه أكرم من كلِّ بهارج دنيا زائفة ... ولو سئل الامام عن سرّ موقفه لقال لهم سمعت أبي يقول :

ـ « ما فائدة أن يربح الانسان العالم ويخسر نفسه؟! ».

وسيطر رغاء الجمال على مشهد يضجّ بالرحيل ، وبدت مكّة في تلك اللحظات ميناءً هجرته النوارس البيضاء دون عودة.

الطريق إلى خراسان حيث تعيش القصص. اكتشف الآن