١٦

33 4 0
                                    

انطوت أيّام جمادي وجاء رجب ترافقه رياح شباط البارد تجوس خلال الديار.

ولم يكن المأمون ليفكّر في شيء قدر ما كان يفكر في موقف علي بن موسى ، فيما يزال يرفض عروض المأمون.

أصبحت هذه المشكلة هاجسة الوحيد ، فلم يكن ليفكر في ثورة الزنوج التي اندلعت في أهوار البصرة بقدر مايفكّر في تقارير وصلته عن تحركات بها زيد بن موسى أخي الرضا في مدينة البصرة.

ولم يكن ليولي أهمّية لاخبار عن ثورة بابك الخرّمي وإعلانه العصيان في اقليم آذربيجان وتحالفه مع الامبراطور
البيزنطي « ميخائيل الثاني ».

ان ما يشغل باله هو كيف يقنع الرجل العلوي ، ها هو قادم اليه ولكنه لا يدري ماذا يفعل وقد فضل هذه المرّة الّا يطلع وزيره الفضل على ما يجري.

عندما أخذ علي مكانه قرب الخليفة ، كان المأمون قد تصنّع ابتسامة تخفي وراءها حقداً مستعراً .. حقداً يتأجج بالرغم من البرد الشديد الذي أحال اشجار الرمّان الى مجرّد اعواد يابسة وبدأ المأمون حديثه عن الطقس :

ـ ما أبرد شباط؟! مضى اليوم منه وبقي تسع وعشرون.

تبسّم الامام وقال :

ـ شباط ثمانية وعشرون يوماً .. تختلف فيه الرياح ، وتكثر الأمطار ويظهر العشب ، ويجري فيه الماء في الأغوار ، وينفع فيه أكل الثوم ، ولحم الطير والفاكهة ، ويقلل من أكل الحلاوات ويُحمد فيه كثرة الحركة والرياضة » ٨٠.

كان المأمون يصغي الى حديث الامام الدافئ ، ولكنّه انتبه الى نفسه ، فتظاهر بانه يسوّي ثيابه وتنحنح بعد أن وضع باطن كفّه على فمه ، لكأنه يحاول أن يتحرّر من تأثير الانسان الذي يجلس قربه ويشع منه نور عجيب ... نور يحاول النفوذ الى قلبه الصخري.

قال المأمون :

ـ يا أبا الحسن لا عذر لك في رفض ولاية العهد بعد أن رفضت الخلافة ... وأنت تعرف اني لا أريد سوى مصلحة الأمة ٨١.

أجاب الامام :

ـ إنّي لا رغبة لي في هذا الأمر.

لم يستطع المأمون أن يتحمّل اكثر من ذلك :

ـ أشكّ في صدقك ... ولا أنخدع بما تتظاهر من زهد ...

هتف الامام بألم :

ـ والله ما كذبت منذ خلقني ربّي ، وما زهدت في الدنيا للدنيا ... وإني لأعلم ما تريد!

انتفض المأمون كمن سعلته عقرب :

ـ وما أريد؟!

ـ تريد بذلك أن يقول الناس : ان علي بن موسى لم يزهد في الدنيا ، بل زهدت الدنيا فيه ، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة؟!
انفجر المأمون غيظاً :

ـ انك تتلقاني أبداً بما اكرهه ، وقد أمنت سطوتي ، فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد ، والا اجبرتك على ذلك فإن فعلت ، والا اجبرتك على ذلك فإن فعلت ، والا ضربتُ عنقك »!

وساد صمت مهيب ، وكان المأمون ما يزال متحفّزاً كذئب واعتصم الامام بصمت الأنبياء ، ثم تكلّم بهدوء ، وكان ايقاع كلماته يعكس ما يموج في قلبه من أحاسيس ، نظر باتجاه السقف ولكن عيناه كانتا تخترقان الحجب وتهدّج صوته :

ـ اللهم انك قد نهيتني من الالقاء بيدي الى التهلكة ، وقد أُكرهت وأُضطررت كما اضطرّ يوسف ...

اللهم لا عهد الاعهدك ، ولا ولاية لي الا من قبلك ، فوفقني لإقامة دينك ، واحياء سنّة نبيّك محمد ، فانك أنت المولى وأنت النصير » ٨٢.

هتف المأمون مسروراً.

ـ واخيراً قبلت؟!

ـ ان لي شروطاً.

ـ؟!

ـ لا أعين أحداً.

لا أعزل أحداً.

لا أنقض رسماً.

وإنّما أكون مشيراً في شؤون الدولة من بعيد ٨٣.

ـ لك ذلك.

ونهض الامام وهو يتمتم :

ـ إنّا لله وإنّا إليه راجعون ... « وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، إن الحكم الا لله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين » ٨٤.

وفي تلك الليلة تجمعت الدموع في عيني الامام ٨٥ كغيوم ممطرة ، إنّه يدرك الاعيب ثعلب بني العباس يعرف كل أهدافه ونواياه ... ولكن هيهات لن يحصد من ذلك الا ندماً.

وفي تلك الليلة سهر المأمون يسطّر وثيقة ولاية العهد ولتنسج العنكبوت آخر خيط في بيتها الواهن.

الطريق إلى خراسان حيث تعيش القصص. اكتشف الآن