٥

58 5 0
                                    

  جلس « الفضل بن سهل » ١٦ مسترخياً بين الارائك الوثيرة مستمتعاً بدفء شمس خريفية ، ويحتسى على مهل وتلذذ عصير الرّمان بعد تلك الرحلة الممتعة في مراعي « مرو » مرو التي غدت عاصمة الدولة المترامية الأطراف.

وفي كل مرّة يتناول فيها عصير الرمّان يشعر بحيوية شاب في الثلاثين بالرغم من اطلالته على الستين.

أوقد خادم تركي النار في الموقد لاشاعة الدفء ، فنسائم الخريف تبشّر بشتاء قارس.

راح الفضل يحدّق في ألسنة النار ، وداخله شعور بالرهبة والخضوع!
أعاده صوت الحارس الى نفسه :

ـ إنّ أمير المؤمنين ينتظر.

نهض بسرعة لا يريد أن يتأخر ، فالمأمون ينوي الذهاب الى الحمام على التقاليد الفارسية ، وقد تقرّر أن يتخلّى المأمون اليوم عن الزيّ الأسود مستبدلاً اياه بالأخضر وسيكون لهذه الخطوة صداها ليس في مرو بل في البلاد من أقصاها الى أقصاها ؛ وقد يبقى صداها في التاريخ أيضاً!

شعر بالغرور وهو يلقي نظرة على صفّين من الحرس وقفوا كالتماثيل ، سوف يضرب ضربته بهؤلاء الذين لا يعرفون سوى الطاعة .. السمع والطاعة. ان الفشل البرمكي لن يتكرر هذه المرّة ... مرو ليست بغداد.

والفضل بن يحيى ١٧ ليس كالفضل بن سهل ...

في الطريق كان يفكر في المناسبة التي يمكنه أن يثير فيها الحديث عن فكرة المعتزلة في خلق القرآن ١٨ التي بدأت افكارها تهبّ شرقاً وغرباً.

إن الهاء الأمّة بمعارك فكرية يسهل في السيطرة عليها واقتيادها.

غادر المأمون الحمام في موكب مهيب ، وبدا بزيّه الاخضر ملكاً فارسياً جليلاً ، واحتفت الجماهير حوله تتطلع.

كان الفضل يتطّلع الى الخليفة السابع كما يتطلّع الصائع الى قلاده ذهبية صاغها قبل قليل ، أو نحات الى تمثال ربّما سيُبعد غداً!

كل شيء يمضي على ما يرام ان طائر السعد قد حطّ على كتفه سوف تسقط الدولة كلّها في قبضته كتفاحة ناضجة.

وفي تلك الليلة وقد مضى شطر من الليل جلس المأمون مجلسه المسائي مع وزيره ذي الرئاستين.

أحضر خادم صندوقاً من خشب الاپنوس ، يحوي بيادق مصنوعة من عاج فيلة هندية.

كان المأمون يراقب الخادم وهو يصفّ الجنود والقلاع والفيلة وقد انتصب الملكان والوزيران استعداداً للمواجهة.

وبدا واضحاً منذ البداية أن الفضل كان يجنب الوزير المواجهة المباشرة ، وكان يكتفي بتحريك بيادقة من فيلة وقلاع والجنود.

سعى المأمون أن تبدو لهجته عادية عندما قال :

ـ هل من أخبار جديدة. قال الفضل متصنّعاً ابتسامه :

ـ ليس هناك الا الخير يا أمير المؤمنين .. لقد استوقت لك الخلافة .. كل شيء يمضي على ما يرام.

رمق المأمون بطرف عينيه :

ـ أنت لا تنظر الا الى بغداد.

ـ إذا دانت لك بغداد يا سيدي دانت لك الدنيا.

ـ أنا لا أخشى بني العباس .. كل ما أخشاه هم أبناء علي.

ـ لقد أخمد الرشيد أنفاسهم .. وبالأمس رأيت محمد بن جعفر كيف يخلع نفسه ذليلاً في مكة ويعترف لك بالفضل.

ـ والمدينة؟!

ـ ليس فيها أحد!

ـ وعلي بن موسى؟!

ـ لم اسمعه يتحدّث بشأن يخيفنا .. إنّه ساكت.

قال المأمون وهو يحرّك وزيره :

ـ ان سكوته يرعبني!

ـ لا أفهم ما تقول!

ـ أنت لا تدري من هو! .. ما زلت اتذكّر كيف هبّ الرشيد
لاستقبال أبيه .. لقد اعترف لي بأنه أحق بالخلافة والملك منّا.

ـ ولكن هذا لا يعرف أحد!

ـ كثيرون يعرفون ذلك نحن وهم وكثير من الناس .. حتى هؤلاء المعتزلة الذي تطريهم ... يتقربون يوماً بعد يوم من القول بأفضلية علي بن أبي طالب وحقّه وهذا يعني الكثير.

انتهت اللعبة كالعادة لا غالب ولا مغلوب ، تثاءب المأمون ونهض الفضل مستأذناً ، خمد بريق عينيه ، لكأن شيئاً يتهاوى في أعماقه إن هذا الشاب الذي أعدّه سُلماً لمجده يفاجئه هذه الليلة بعقل جبّار ودهاء أين منه دهاء أبيه الرشيد وجدّه المنصور؟!

الطريق إلى خراسان حيث تعيش القصص. اكتشف الآن