٩

36 4 0
                                    


بدت المدينة ذلك الصباح الغائم اشباحاً ، فقدت البيوت ظلالها ، وغمرت الأزقة كآبة ... خاصّة ذلك الزقاق حيث بركت النوق لتحمل الذين أزمعوا الرحيل قهراً.

ولج الرجل الذي يخطو نحو الخمسين مسجد النبي ومعه ابنه يتبعه كظلّه ، كانت السماء تنوء بالغيوم ، ودموع تتجمع في عيني الرجل المدني.

وقف إزاء القبر الذي يضم آخر الانبياء ، مثل غيمة حزينة بدا الرجل الذي يرتدي ثياباً بيضاء.

الذين حضروا اللقاء بهرتهم دموع حفيد محمد! لكأن الحزن ساقية تنساب في خريف الزمن ... كان علي يستنشق

عبير النبوّات ، تماسك لينهض ، وخطا خطوة للوراء ثم هوى الى المكان الطاهر مرّة أخرى ، لكأن جذوره في تلك التربة حيث أغمض عينيه محمد بسلام.

وتقدّم رجل من سجستان :

ـ هنيئاً لك يا سيّدي ما تصير اليه.

ـ ذرني .. فأني أخرج من جوار جدّي فأموت في غربة ٤٨ وذهل الرجل ، وانبعث في اعماقه قرار بأن يرافق الرجل ليرى بنفسه كيف تتحقق النبوءات.

وضع محمد كفه الصغيرة الدافئة على كتف أبيه ، ونهض الأب لكأن دماءً جديدة تنبعث في أعماقه ، وأملاً يتجدّد في كيانه.

كانت فاطمة تراقب ما يجري ، وشيء ما يشدّها الى شقيقها ليست مشاعرة الأخوّة فقط ، بل أنها تعيش فجيعة يُتْمها قبل عشرين سنة يوم أخذو أباها ولم يعد ، وتوفيت أمّها وهي لم تزل طفلة بعد.

وقفت فاطمة وقد تجسّدت أمامها فجائع الزمن الرديء كيف يُختطف أحبّتها لكأن السنين والأيام ذئاب مجنونة تتخطّف ما شية أحلامها ، وهي ترعى في الوادي الأخضر
بسلام.

وتفجّر غضب مقدّس في قلبها .. في ذلك الجزء النابض الذي يختصر العالم بأسره.

ونهض الامام يمس المرقد الطاهر بكفّه ويحتضن ابنه وقد آتاه الله الحكم صبياً :

ـ أمرت جميع وكلائي ، وحشمي بالسمع والطاعة لك ، وقد عرّفتك لأوثق اصحابي ٤٩.

نهضت النوق ، وانتظمت القافلة ، وقد يممت سفن الصحراء وجوهها جنوباً شطر المسجد الحرام.

وعندما اجتازت القافلة ثنيّات الوداع قال الرجل المدني لابنه وهو يحاوره :

ـ « صديق كل امرئ عقله وعدوه جهله » ٥٠.

« افضل العقل معرفة الانسان نفسه » ٥١.

« من علامات الفقه : الحلم والعلم والصمت : ان الصمت باب من أبواب الحكمة ... ان الصمت يكسب المحبّة ... انه دليل على كلَّ خير » ٥٢.

وتقدّم ياسر وكان يعمل خادماً فسمع الامام يقول :

ـ « أوحش ما يكون هذا الخلق في ثلاثة مواضع : يوم ولد الى الدنيا ، ويخرج المولود من بطن امّه فيرى الدنيا ، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها ويوم يبعث فيرى الدنيا ، ويوم يموت فيعاين الآخرة وأهلها ويوم يبعث فيرى أحكاماً لم يرها في الدنيا ، وقد سلّم الله على يحيى في هذه المواطن وآمن روعته فقال : « وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا » ٥٣.

وهبّت نسائم شمالية حملت دندنة راع يشكو الزمان.

وراحت القافلة تطوي الصحراء حتى إذا وصلت « غدير خم » القى المسافرون رحالهم قريباً من عين ينبجس ماؤها من أسفل صخرة ثم يسيل في واد فسيح ، وقد نبتت بعض أشجار النخيل اثر توقف المسافرين وتناولهم التمر في الوادي ٥٤.

أشرق القمر بدراً من فوق الربى البعيدة ، وأشار الرجل الذي يخطو نحو الخميس باصبع سمراء :

ـ ذلك موضع قدم رسول الله حيث قال : « من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه » ٥٥.

وانبعثت الذكريات ، وغمرت المسافرين حالة من الخشوع لكأنهم يسمعون هتاف رسول السماء في هذا المكان. ما تزال الكلمات المقدّسة تدور في الفضاء ، ما يزال شذى جبريل وهو يتلو كلمة الله : « اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا » ٥٦.

والتفت علي الى شقيقته التي كانت تنظر الى القمر وقد استقر فوق الروابي البعيدة:

ـ لقد سمعت أبي يروي عن جدّي الصادق : « ان لله حرماً وهو « مكّة » وان للرسول حرماً وهو « المدينة » وان لأميرالمؤمنين حرماً وهو « كوفة » وآن لنا حرمّا وهو بلدة اى « قم » ، وستدفن امرأة من أولادي تسمى فاطمة من زارها فله الجنّة ».

ونظر الصبي الى عمته كانت ما تزال تتأمل القمر وقد استغرقت في حالة تشبه الصلاة ، وقد جمدت في مكانها فيما كانت نسائم المساء تداعب اطراف ثوبها الذي يلامس سمرة الصحراء.

وفي تلك البقعة المباركة من دنيا الله انبثق شلال من الصلاة ، وكانت كلمات الحمد والثناء لله خالق الأرض والسماء ، تتألق في ظلمة الغروب الحالمة ، وشيئاً فشيئاً ظهرت النجوم في السماء.

وانصرف بعضهم الى جمع الحطب ، وكان صوت تكسّر الاغصان الجافّة يكسر معه صمت الليل.

ولم يمض غير وقت قصير حتى أضاء في الظلمة موقدان ؛ موقد للطبخ وآخر للنور والدفء وانطلق صبية الى كثيب رملي نحتته الرياح ، ليتخذوا منه مسرحاً للهو بريء.

الطريق إلى خراسان حيث تعيش القصص. اكتشف الآن