الفصل السابع عشر

7.6K 262 17
                                    


(( ميثاق الحرب والغفران))
_ الفصل السابع عشر_

فتح جلال عيناه دفعة واحدة مفزوعًا على أثر صوت صفع الباب العنيف، غضن حاجبيه باستغراب وحيرة يتساءل عن هوية الشخص الذي كان بالغرفة وغادر وصفع الباب خلفه بهذه الطريقة الجنونية، لكنه لم يكترث للأمر كثيرًا وتجاهله ثم رفع يده وراح يمسح على وجهه وشعره متأففًا بهدوء ثم أخفض نظره لزوجته النائمة بين ذراعيه، تأملها للحظات بغرام وهي نائمة بعمق وملامحها الرقيقة ترسل لروحه الثائرة سكونًا وراحة لا يستطيع أحد أن يحققه غيرها، انحنى عليها ولثم جبهتها بلطف ثم ابتعد بوجهه وتمعن بها من جديد لكن ابتسامة وجهه اختفت حين تذكر ما فعلته ورغبتها بالانفصال عنه، ورغم كل هذا تأتي بمنتصف الليل وتدخل بين ذراعيه لتقضى الليل كله نائمة بأحضانه.. أصبح لا يستطيع فهمها، لكن ذلك ليس مبرر لهجرها له ولن يُنهي غضبه منها ولا حتى شعوره بالخذلان.
أبعد رأسها عن ذراعه برفق شديد ووضعها فوق الوسادة ثم ابتعد هو عنها بكل بطء إلى أن غادر الفراش كله واتجه نحو الحمام ليغتسل ويزيل بقايا النعاس والخمول عن وجهه وجسده، وبعد دقائق معدودة خرج وارتدى ملابسه وغادر الغرفة وتركها نائمة.

نزل الدرج وكان بطريقه لغرفة الجلوس الكبيرة لكي يتحدث مع جده لكن خرجت جليلة أمامه وأوقفته وهي تسأله بنظرات مشتعلة:
_ بت إبراهيم بتعمل إيه إهنه ياچلال؟!
تطلع لأمه بقوة ورفع حاجبه متعجبًا من سؤالها ثم قال:
_أنتي اللي دخلتي الأوضة علينا؟
أجابت جليلة بشدة وغضب:
_ دخلت عشان فاكرة ولدي وحده وكنت رايحة اصحيه بس لقيت ست الهانم نايمة في حضنه
اشتدت حدة نظراته وظهر الانزعاج على قسمات وجهه وهو يهتف:
_هي مش ست الهانم دي مرتي ولا إيه ياما!
رمقته جليلة باستهزاء وقال مستاءة:
_ ومرتك دي برضوا اللي سابتك وعاوزة تتطلق منك، إيه اللي چرالك ولا هي ضحكت عليك بكلمتين
مسح على وجهه متأففًا بغضب فحاول تمالك أعصابه حتى لا ينفعل على أمه وهم بالانصراف من أمامها لكنها اوقفته للمرة الثانية وهتفت بحزم:
_قولتلها أنك كلها أسبوع وتتچوز ولا لا كمان!
جلال بعصبية ولهجة تحذيرية:
_ لا مقولتلهاش ياما وأنتي مش هتقوليلها حاچة كمان
ضحكت بسخرية وردت:
_ إيه ناوي تداري عليها ومتقولهاش ولا تكونش هتتچوز في السر
زفر بصوت مرتفع في خنق وأردف في نفاذ صبر:
_ هقولها بس مش دلوك.. واطمني فريال نهت كل اللي بينا ومهما تعمل مش هعرف ارچع معاها كيف الأول
انهى عبارته واندفع من أمامها متجهًا نحو غرفة الجلوس ليتحدث مع حمزة، ورغم أنه تركها سعيدة ومطمئنة مما تفوه به إلا أنها لا تأمن فريال وحيلها في نيل رضاه مجددًا.
                                      ***
داخل منزل إبراهيم الصاوي تحديدًا بالمطبخ، كانت تقف آسيا وحيدة داخله وتقوم بتحضير الطعام رغم أنها وجدت صعوبة بالبداية في إيجاد مكونات الطعام المختلفة والخضروات والبهارات وقضت وقت طويل وهي تبحث عنهم بالمطبخ كله وعندما وجدتهم بدأت فورًا في تحضير الطعام، بعد مرور الوقت وهي منشغلة بالتحضير كانت تقريبًا انتهت وعلى وشك وضع الصحون فوق صينية الطعام وتأخذها وتصعد بها لغرفتها لكن دخول شخص من أكثر الأشخاص الذي لا تطيق تحمله وتشعر أنها ستنفجر من شدة الغيظ والخنق عندما تراه جعلها تتوقف للحظة وتتطلع إليه مطولًا بقوة بينما الأخرى فردت بكل برود وهي تبتسم:
_ كيفك يا آسيا؟
تجاهلت سؤالها وهزت رأسها بقرف دون أن تجيب عليها واستدارت بجسدها للصينية الصغيرة تهم بحملها لكنها اوقفتها بنبرتها الساخرة ولم تكن طبيعية كالسابقة أبدًا بل كانت حاقدة:
_عمران عمره ما كان هيوافق يتچوز واحدة كيفك وطالما هو اتچبر فقريب قوي هيطلقك وترچعي لناسك اللي رموكي
تحكمت آسيا في انفعالاتها بصعوبة وأظهرت البرود والثبات الأنفعالي ثم حملت الصينية وتقدمت نحوها لتقف أمامها مباشرة وتبتسم بخبث متمتمة في لهجة شيطانية متعمدة حرق روحها كما فعلت للتو:
_وماله يطلقني أنا معنديش مشكلة بس أنتي اللي صعبانة عليا عشان لا كان ليكي فرصة قبل ما يتچوزني ولا بعد ما يطلقني هيبقالك فرصة
احتقنت ملامح الأخرى فابتسمت آسيا بتشفي وتابعت بقسوة أشد:
_ياريتك تبقي كيف رحاب أختك.. أختك الصغيرة على وش چواز وأنتي لساتك قاعدة عشان حاطة في دماغك أنه هيچي يوم ويبصلك فيه، نصيحة الحقي اتچوزي احسن ما تفضلي قاعدة وتلاقي العمر چري بيكي وتبقي بايرة والناس مبترحمش في زمنا ده  
القت عليها آسيا نظرة أخيرة كلها قوة قبل أن تبتعد وتغادر فقابلت فور خروجها من باب المطبخ عفاف التي نظرت للطعام الذي تحمله باستغراب وآسيا رمقتها بشر واستياء ثم أكملت طريقها تجاه الدرج تقصد الطابق الثاني حيث غرفتها.
وصلت أمام الباب فحملت الصينية على يد واحدة للحظة وبسرعة فتحت الباب بيدها الأخرى ثم دخلت واغلقته بقدمها في هدوء، وجدته يجلس فوق الفراش ويستند عليه بظهره للخلف ثم راح  بتابعها بصمت وهي تسير نحوه حاملة الطعام، وعندما وصلت إليه انحنت ووضعت الطعام أمامه دون أن تتفوه بحرف واحد فلاحظت نظراته الغريبة لها، لم تكن غاضبة أو عادية حتى بل كانت محملة بعلامات الحيرة والتعجب ففهمت ما يدور بذهنه وقررت تصحيح ظنونه على الرغم ما أنها صحيحة لكنها هي التي تنكرها ولا تتقبلها فقالت بعنجهية:
_ أنا لو وافقت على اللي قولته قبل ما أنزل وأني هخدمك وعملتلك الوكل فده بس عشان أنا غلطانة صُح ولازم اتحمل نتيچة غلطي بس مش عشان أنا خايفة منك طبعًا
طالت نظرته الجامدة لها قبل أن يخفض رأسه تجاه الطعام ويبدأ في الاكل متمتمًا ببسمة ساخرة:
_ يعني أنتي مبتخافيش مني!
عقدت ذراعيها أسفل صدرها وردت في ثقة مزيفة وتيه:
_أنت شايف إيه يعني
نظر في عيناها بثبات وقال بهمسة تحمل بحة رجولية مربكة:
_ أنا شايف الكدب في عنيكي
اضطربت من رده وحين نظرت في عيناه الثاقية ومقلتيه السوداء بتدقيق توترت أكثر فاشاحت بوجهها عنه بسرعة لا تعرف أتتهرب من نظراته أم من نفسها؟!.. لكنها أبت حتى إظهار تأثرها به وخشيت أن يلاحظ هذا فتصرفت بطبيعية وكأنها لا تبالي به من الأساس واقتربت من الفراش تجلس على الحافة في الجهة المقابلة له، شعر هو أنها ليست طبيعية وأن هناك ما يزعجها أو يربكها لكنه لم يكترث لها كثيرًا وأكمل طعامه لكن لحظات قصيرة وتوقف مجددًا عندما لمح السلاح على الأرض بجانب الفراش، فالقى عليه نظرة مطولة ثم نظر لها في نظرة عابرة وانحنى من فوق الفراش يمد يده إلى الأرض ليلتقطه ويمسكه بيده هاتفًا:
_ده لساته مكانه من ليلة امبارح
نقلت عيناها بينه وبين السلاح وعندما تذكرت أن بداخله مازال يحمل رصاص ورأته وهو يمسكه بطريقة خطرة، زعرت وخشت أن يصيب نفسه مجددًا دون قصد فجذبته من يده بسرعة وقالت بصرامة:
_متمسكهوش لساته فيه رصاص
رأى أنها توجهه نحوه دون وعي منها بسبب توترها الملحوظ فمد يده لها وهو يهتف بغضب وحدة:
_بعديه من وشي إيه ناوية تچبيها في نفوخي المرة دي.. هاتي اللي في يدك ده واوعاكي تمسكي السلاح تاني
دهشت حين رأت نفسها توجهه صوبه بالفعل ولوهلة لم تفهم سبب تصرفاتها الساذجة والهوجاء هذه فهي لم تكن هكذا من قبل ابدًا، لكنها لم تجادل معه بكلمة واحدة واعطته له بكل طواعية وهدوء ليجذبه ويضعه فوق المنضدة الصغيرة المجاورة للفراش إلى حين انتهائه من طعامه.
ظلت تتمعنه بشرود وهو يأكل وللحظة قذفت بذهنها عبارة بلال لها "بعد كل اللي عمله معاكي ده وعاوزة تقتليه".. نزلت بنظرها لذراعه المصاب وتأملته بضيق ولوهلة صابتها وعزة ندم وخوف في صدرها عندما تخليت فكرة أذا اصابت الرصاصة مكان آخر بجسده.. وتحقق ما كانت تسعى له وقتلته، على الرغم من أنها كانت تريد فعلها وبشدة سابقًا لكن لسبب ما تغضب من نفسها على فعلتها الآن حتى أن الراحة تغمرها لأنه لم يمت.
فاقت على صوته وهو يسألها وسط تناوله للطعام:
_أنتي فطرتي ولا إيه؟!
اكتفت بهز رأسها بالنفي دون أن تتحدث فأجابها هو بجدية:
_طيب أمال قاعدة بتتفرچي عليا ليه!.. كُلي
أماءت له بالموافقة وتنهدت بعمق ثم بدأت تشاركه الطعام بعقل شارد وعينان ضائعة.. وبعد دقائق قصيرة انتهوا من فطورهم فاستقامت هي واقفة وحملت صينية الطعام وقادت خطواتها للخارج لكي تذهب بها للمطبخ وعادت له مجددًا فوجدته انتهى للتو من تناول دوائه ورجع بظهره للخلف لكي يرتاح لكنه امسك بذراعه فجأة متألمًا عندما حركه دون قصد فاقتربت منها وصعدت على الفراش بجواره ثم جذبت وسادة كبيرة وقالت له بأسلوب جديد عليها:
_حاول ترفع يدك براحة
رفعها ببطء منفذًا لما طلبته منه رغم أنه مندهش من تحولها الغريب، ثم وجدها تدس الوسادة أسفل يده هاتفة بنبرة صوت ناعمة تلقائية منها يسمعها للوهلة الأولى:
_خلي يدك إكده واسندها عليها هتريحك ومش هتحس بألم
همس لها بنظرة ثاقبة تضمر خلفها معاني وشكوك كثيرة:
_ رغم أني مش قادر استوعب بس اللي بتعمليه ده ملوش غير تفسير واحد وهو أنك ندمانة وحاسة بالذنب على اللي عملتيه
تطلعت له ولبشرة وجهه البرونزية المميزة مع لحيته وشارب وعيناه السوداء فتوترت للمرة الثانية فاستاءت وردت عليه بجفاء وخنق:
_ مش أنت قولت هتخدميني وأنا أهو بنفذ أوامرك وكلامك عاوز إيه عاد
ابتسم وتمتم بهدوء وهو يعتدل في جلسته قليلًا:
_ معاوزش حاچة، بس خليكي إكده علطول عاقلة وبتسمعي الكلام من غير عناد
لم تجيبه واكتفت بنظرتها الجامدة له قبل ان تستقيم واقفة وتتجه للحمام تاركة إياه يتساءل بحيرة حول أمرها المريب!!....
                                       ***
اندفعت جليلة تجاه غرفة ابنها تقصد فريال الموجودة بالداخل، ولم تتريث لتطرق الباب حتى بل فتحته على مصراعيه بعنف ودخلت فوجدت فريال تلف حجابها وكانت تنوي الخروج، لكنها توقفت عندما رأت حماتها وهي تنظر لها بشراسة ونارية ولم تلبث لتطرح عليها سؤال ماذا بها حتى وجدتها تثور عليها وتقبض على ذراعها بعنف صائحة بها:
_ بتعملي إيه إهنه؟
فزعت فريال من هجومها المفاجيء عليها فردت عليهل برقتها المعتادة وهي تنتشل ذراعها من قبضتها:
_چيت أشوف ولدي واطمن عليه.. بعدين ده لساته بيت چوزي
صرخت بها جليلة مستاءة:
_افتكرتي دلوك أنك متچوزة.. چلال خلاص معدش ليكي ومش هيرچعلك فاهمة ولا لا يابت إبراهيم
انفعلت فريال أخيرًا وهتفت بحدة على الرغم من أنها لا تستطيع مجابهة قسوة ولا شراسة جليلة:
_لا مفهماش وملكيش صالح بينا وبعدي عني واصل
استشاطت الأخرى واشتلعت بنيران الغيظ والغضب فراحت تصرخ بها بعصبية هستيريا:
_أنتي اتخبلتي في نفوخك هو إيه اللي مليش صالح ده ولدي.. فاكرة هسيبلك ولدي عشان تاخديه مني كمان وأنا مفضليش غيره.. أبوكي قتل چوزي وأخوكي ضحك على بتي وخلاها تسير معاه في طريق مفيوش منه رچعة وخدوتها مني هي كمان ودلوك فكرك هسيبلك چلال ده يبقى بتحلمي
كانت تتراجع فريال للخلف بقلق من هجوم وصراخ حماتها عليها ولم ينقذها منها سوى دخول جلال الذذي ركض نحو أمه وأمسك بها هاتفًا:
_ بتعملي إيه ياما؟!!
تطلعت بابنها في قوة وقالت ببأس:
_ بوعي مرتك وبقولها على الحقيقة اللي نسيتها.. ومتنساش أنت كمان أن دي هي اللي سابتك قصاد الكل وداست على كرامتك وادتك ضهرها
كان مندهشًا من انفعال أمه الشديد وكلامها لدرجة أنه وقف ساكنًا أمامها دون أن يتحدث وبعد رحيلها بلحظات كانت فريال تهم هي الأخرى بالانصراف في غضب وقهر لكنه قبض على ذراعها يوقفها بسؤاله القوي:
_ رايحة وين؟!
فريال بجفاء وثبات مزيف:
_ ماشية ياچلال
ضيق عيناه ورد ساخرًا بسخط:
_ هتمشي تاني يعني!
ردت عليه بصلابة وقسوة جسدتها بمهارة:
_ أنا مرچعتش عشان امشي من تاني أصلًا، أنا چيت عشان اشوف ولدي واطمن عليه بس
رغم كل ما فعلته وشعور الخذلان القاسي الذي سببته له إلا أنه كان يأمل أن يسمع منها ردًا يهدأ من نيرانه ولو قليلًا كان ينتظر أن يسمع قرار عودتها لمنزلها وكان على استعداد أن يلغي زواجه بلحظة غير مباليًا بأي شيء لكنها فعلت وخذلته للمرة الثانية.

رواية ميثاق الحرب والغفران حيث تعيش القصص. اكتشف الآن