الفصل السابع

1.6K 48 2
                                    

الفصل السابع
دينك علي

أيقظتها طرقات قوية .. انتزعتها من الظلمة المريحة التي كانت غائبة فيها .. وانتفضت على إثرها مذعورة .. عاجزة في البداية عن تمييز المكان الذي وجدت نفسها فيه
وعندما تعرفت إلى الحمام الفاخر بلونيه العاجي والقرمزي .. تذكرت كل شيء
عادت الطرقات الملحة تهز باب الحمام المقفل .. فأسرعت تنتزع منشفة كبيرة من المشجب .. لتلف نفسها بها في اللحظة التي فتح فيها جهاد الباب .. ووقف بقامته الطويلة والفارعة .. ينظر إليها بصمت .. وقد بدا واضحا انه قد استحم مستخدما الحمام الإضافي .. وارتدى ملابسه .. كما ظهر من آثار التعب والإرهاق على وجهه أنه لم يذق طعم النوم لحظة واحدة
شمل بنظراته الجليدية مظهرها البائس .. ابتداءا من شعرها المشعث ووجهها الملطخ بآثار الكحل الثقيلة .. وبالدموع الجافة .. إلى جسدها النحيل المرتجف .. المحاط بالمنشفة البيضاء
لم تكن بحاجة لقراءة أفكاره كي تدرك مدى احتقاره وكرهه لها .. فقد بدا هذا واضحا في عينيه القاسيتين .. والتواء ملامحه بازدراء
قال ببرود :- من الأفضل ان تغتسلي وترتدي ملابسك .. وتوافيني إلى غرفة الجلوس .. هناك ما عليك سماعه مني
خرج مقفلا الباب خلفه دون انتظار لتعليقها .. ترنحت فاستندت إلى الجدار طلبا للقوة .. وكادت تنهار مجددا وهي تخمن ما سيقوله لها .. سيطلقها .. ويطردها من حياته .. سيعيدها إلى بيت خالتها مذللة بعارها .. والأقسى أنها لن تراه مجددا بعد ذلك أبدا
تحت المياه الساخنة .. عادت سلام تبكي مجددا .. بينما هي تشتم نفسها بغضب .. لماذا تبكين .. لقد كنت تعرفين بأن هذا ما سيحصل .. فلماذا تتذمرين ؟ نعم .. لقد كنت تأملين بأن تكون الأمور مختلفة .. ذلك الأمل الأحمق والساذج بأنك ربما كنت مخطئة .. وأنك لست ملوثة كما رأت نفسها ليلة الأمس من خلال عيني جهاد
أغمضت عينيها بقوة وخاطبت نفسها :- لقد سبق وخمنت حدوث كل هذا يا سلام ..
لن تسمح لنفسها بمزيد من الانهيار .. لن تكون الضحية هذه المرة .. هي لم تخدع جهاد .. أو تشعه على الزواج منها .. بل هو من أرغمها على هذا الزواج وهو من سيحتمل نتائجه
وقف جهاد أمام النافذة .. ينظر إلى صحوة المدينة في هذا الوقت المبكر .. كان متعبا .. ومرهقا بعد ليلة طويلة من الأرق .. قضي الساعات الطوال وهو يجوب الصالة ذهابا وإيابا .. يرمي الأشياء هنا وهناك مانعا نفسه بصعوبة من العودة إليها وإيذائها جسديا كي يشفي غليله .. لقد عرف بانه إن ظل إلى جوارها .. فإنه لم يكتفي حتما بالكلمات القاسية .. كان ليقتلها خنقا بين يديه وهو يتخيلها بين ذراعي رجل آخر .. حصل على ما حصل عليه هو ليلة الأمس .. إدراكه لأي مدى سيجره غضبه أبعده عنها .. فما أذعره ان جزءا منه ما زال ينظر إليها على انها سلامه .. ملاكه الطاهر .. ملاكه الجميل المقدس .. وهو لا يمكن أن يؤذي ملاكه المقدس
أغمض عينيه بقوة غاضبا من ضعفه .. وذكر نفسه بصرامة بانها ليست ملاكا .. وأنها قطعا ليست بريئة ..
أحس جهاد بدخولها دون أن يراها .. استدار ببطء ليجفل لرؤيتها رغم توقعه له .. تأمل شعرها الرطب المعقود خلف رأسها على شكل ذيل حصان .. وشحوب وجهها الخالي من الزينة .. وضعف جسدها الرشيق تحت سروال من الجينز .. وقميص قطني أسود .. أظهر لون عينيها الجميل .. والذبول المطل منهما
بالرغم من ضعفها الظاهر .. فقد استشف شيئا من القوة التي كانت مفقودة ليلة الأمس .. وكأنها أثناء الليل قد تمكنت من تمالك نفسها .. بدت له في تلك اللحظة أشبه بالفتاة التي أنقذته قبل عامين .. كبح مشاعره .. وذكر نفسه بحقيقة المرأة التي تقف أمامه .. فرسم ابتسامة ساخرة على شفتيه .. ومسحها بنظرات الاحتقار وهو يقول :- ألست بهذا المظهر نموذجا للبراءة والعفة
مع ان غضبه الجنوني الذي كاد يفقده صوابه ليلة الأمس قد اختفى .. إلا ان سلام لم تحتمل سخريته واحتقاره .. فقالت بخفوت :- سأوفر عليك ما ستقوله .. وسأجمع متعلقاتي الشخصية .. وأغادر المكان في أسرع وقت ممكن .. فلا تهدر إهاناتك علي لأنني لن أرد عليها
هدوءها أثار غضبه .. فقال ببرود :- سأسمعك ما أريد يا عزيزتي .. ولن تجرؤي على الرد .. وهذا أقل ما تستحقينه نتيجة خداعك لي .. انظري إلى نفسك في المرآة .. لقد ظننت بانني قد تزوجت راهبة .. وإذ بي أجدك ...
قاطعته وهي تصيح بألم :- أنا لم أخدعك .. أنا حتى لم أرغب في الزواج بك .. لقد رفضتك مرارا وتكرارا .. وأنت من كنت كالطفل المدلل مصر على الحصول على لعبة أعجبتك .. أنت من هددني وتزوجني بالقوة
قال بغضب :- ربما لو تكبدت العناء وأوضحت لي أي امرأة رخيصة أنت .. لوفرت علينا جميعا هذا العناء .. ما كنت اضطررت لمنحك اسمي كي أحصل على ما حصل عليه الكثيرون قبلي
تجمعت الدموع في مقلتيها تهدد بالعصيان فلم تسمح لها .. قالت بألم :- لا فائدة من هذا النقاش .. سأغادر هذا المكان .. ولن تضطر لرؤيتي مجددا .. اعدك
:- لن تذهبي إلى أي مكان
رفعت رأسها إليه بتوتر .. دون أن تفهم ما يريد قوله لها .. ابتعد عن النافذة .. واقترب لتتمكن من رؤية الحقد العميق في عينيه الغاضبتين وهو يقول :- أنا أكرهك .. وأحتقرك .. وألعن الساعة التي تزوجتك بها .. ولكن عودتك إلى بيت خالتك صباح زفافنا .. ستثير الأقاويل بين الناس .. ولن تهدأ عائلتي حتى تعرف الحقيقة
قالت مذهولة :- ولماذا تهتم لما سيقوله الناس عني ؟
ضحك باستخفاف قائلا :- أنا لا أهتم حتى إن رأيتك ميتة امامي في هذه اللحظة .. ما يهمني هو كرامتي بين الناس .. سيسخر الجميع مني إن عرفوا بأنني عندما تزوجت اخيرا .. اخترت عاهرة لأدخلها بيتي وعائلتي .. سأصبح أضحوكتهم لفترة طويلة وهو ما لن أسمح به أبدا
لم تفكر بهذا أبدا .. لقد ظنت بأن رحيلها سيسهل الأمور عليه وإن صعبها عليها .. قال بارتباك :- ما الذي تريدني ان أفعله؟
قال بحزم :- أتت ستبقين زوجتي لفترة من الزمن .. ستمثلين أمام الناس والمجتمع دور الزوجة السعيدة والمثالية .. سترافقينني في المناسبات الاجتماعية .. وتمثلينني في النسائية منها .. وأدعو الله ألا يصدف وجود أحد عشاقك السابقين في أحدها فيفضحك
كزت على أسنانها بغضب ومرارة .. إلا انها لم تعلق على إهاناته لها .. فأكمل :- وستظهرين لعائلتي أي زوجة مطيعة وراضية حصلت عليها .. ولن تسمحي لأحد بان يتذمر منك
أثار ذعرها أن تكذب على أفراد عائلته التي حازت على محبتها وإعجابها بقوة رغم معرفتها القصيرة بها .. فقالت بذعر:- لا أستطيع خداع عائلتك
قال بقسوة :- بل تستطيعين .. فقد خدعتني انا من قبل .. استاذة مثلك لن تجد صعوبة في التظاهر بالوقوع في حبي رأسا على عقب
ترقرقت دموعها بألم .. كيف تتظاهر بحبه وهي مجنونة بهواه .. ومنذ سنوات ؟ لن يكون هذا صعبا فقط .. بل تعذيبا لها .. أن تنظر إليه وتراه يبتسم لها .. ويتودد إليها أمام الجميع .. بينما لا يحمل في قلبه نحوها إلا الاحتقار والحقد
هزت رأسها هامسة :- لا أستطيع .. لا أستطيع
أخفضت رأسها كي لا يرى دموعها .. بينما عبس هو في غضب .. وقال ببرود :- لا خيار أمامك .. إن عدت إلى بيت خالتك الآن .. ستلوكك الالسن .. وستبدأ التخمينات حول سبب افتراقنا صباح زفافنا .. انت لن تضعي خالتك في هذا الموقف .. صحيح ؟
نظرت إليه بدهشة .. ثم تمتمت :- إذن .. فأنت تهتم في النهاية بما قد يحل بي
لعن بخفوت .. وكرر يده عبر شعره القاتم .. وقد بدا غاضبا وثائرا وقادرا على تحطيم أي شيء يراه أمامه ... ولكنه سيطر على انفعالاته .. وقال بخشونة :- بالطبع أهتم .. فقد أنقذت حياتي قبل سنتين .. وبغض النظر عن كونك مخادعة ورخيصة .. فسأعتبر هذا ردا لدينك علي .. بزواجنا .. أمنحك الستر الذي سيتيح لك الفرصة لبدأ حياة جديدة بعد الطلاق .. هذا إن استطعت منع نفسك من سلوك ذلك الطريق مجددا وفضح نفسك امام الناس
شهقت عندما قطع الغرفة بخطوتين .. ووصل إليها .. وأمسك معصمها بقسوة كادت على إثرها تطلق صرخة ألم .. قال من بين أسنانه :- ولكنني أحذرك يا سلام .. خلال فترة زواجنا القصيرة.. لا أريد أن أعرف بأنك قد تنفست قرب رجل آخر .. ستلعبين دور المرأة المحترمة كتغيير هذه المرة .. فتشرفينني في العلن .. وترضين عائلتي .. وتديرين بيتي كما يفترض بالزوجة أن تفعل .. فتحافظين عليه وعلى طهارته وسمعته .. أ تفهمين ؟
التهديد الواضح من كل عصب في جسده .. من نظراته النارية وأنفاسه العنيفة .. جعلها تهز رأسها بقوة .. يدفعها خوفها من غضبه .. مشطتها عيناه بازدراء شديد وهو يقول :- وللعلم فقط .. أنت معفية تماما من أداء واجباتك الزوجية الاخرى .. فانا لن ألمسك ولو كنت المرأة الوحيدة في العالم .. وهذا يعني أنك ستقنعين بحياتك بلا رجل يرضي جانب المومس منك
سحبت يدها من بين أصابعه .. ودلكت معصمها بيدها الاخرى وهي تبتعد كي لا يرى تأثير كلماته المدمر عليها
هل تستطيع لومه على معاملته السيئة لها ؟ على الأقل .. هو لن يفضحها كما قد يفعل أي عريس مخدوع آخر
همست بانكسار :- ما الذي تريد مني فعله الآن ؟
بذل جهدا كبيرا كي لا يسمح لقلبه بأن يلين أمام الضعف الذي ظهر عليها فجأة .. فقد كسى وجهها شيء من الدمار الذي كانت عليه ليلة الامس .. وذكر نفسه بقسوة بأنها بارعة في التمثيل .. وأن هذه الدموع الحبيسة في عينيها الجميلتين ما هي إلا محاولة فاشلة لاستدرار عطفه
قال بجفاف :- نحن مدعوان إلى الغداء في منزل عائلتي احتفالا بزواجنا .. وخالتك وعماد سيكونان هناك أيضا .. مع بعض أفراد العائلة المقربين
هزت رأسها قائلة بيأس :- لا أستطيع مواجهة أحد الآن
:- لست مخيرة للأسف .. إنه تقليد لا يمكن تغييره .. سنتلقى العديد من هذه الدعوات خلال الشهر القادم .. وعليك ان تشحذي جميع مواهبك في التمثيل ولن يشك أي أحد بمدى سعادتنا .. وإلا فإنك ستندمين


 

رواية سلام لعينك لكاتبة بلومىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن