الفصل الثانى عشر

1.6K 52 0
                                    

الفصل الثاني عشر

لا مهرب

لم يصدق جهاد حقا بانه يقوم بهذا .. أحس بأنه حقير للغاية .. وأنه يخون عهدا لم يقطعه .. أوقف سيارته امام ذلك المبنى القديم .. و اخذت أصابعه تنقر فوق عجلة القيادة بتوتر .. ما الذي يفعله هنا ؟
دوى رنين هاتفه المحمول فأجاب عارفا هوية المتصل وقال على الفور :- توقف عن الإلحاح أيها السافل .. لقد وصلت
أتته ضحكة صديقه القديم فادي عالية وصوته الاجش يقول :- لا تلمنى على التلهف عليك يا صديقي .. مضت سنوات منذ سهرنا فيها معا .. ما زلت غير مصدق لاتصالك بي ليلة الأمس .. أخيرا صديقي الشارد يعود إلى بيته مجددا .. لم يتمالك جهاد نفسه عن الابتسام بسخرية من تناقض الكلمات مع المعنى .. قال باقتضاب :- لا تكثر من الكلام الفارغ .. هل جهزت كل شيء ؟
:- أجمل سهرة وأجمل صحبة .. كالسابق تماما .. رهف في اتم الشوق للقاءك مجددا .. انت تذكرها .. صحيح ؟
قال جهاد بجفاف :- سأكون عندك خلال دقائق ..
ترجل من السيارة دون ان يحاول تذكر المدعوة برهف .. كان يسير بخطوات بطيئة إلى داخل المبنى .. يرتقي الدرج إلى شقة صديقه التي اعتاد إقامة الحفلات الصاخبة فيها .. والتي كان جهاد يشارك ببعضها فيما مضى ..
فيما مضى .. عندما كان رجلا آخر .. قبل أن يكاد يموت على يدي ماجد .. قبل ان يلتقي بسلام .. فما الذي يفعله هنا ؟
فتح فادي الباب قبل حتى ان يطرقه جهاد .. سحبه بفظاظة ليعانقه بطريقة رجولية فجة وهو يقول ضاحكا :- أهلا بعودتك يا صديقي .. هل علي أن أدين لزواجك بإعادتك إلى أصدقائك القدامى
تعالى صوت الموسيقى الصاخبة من داخل الشقة .. تخللتها أصوات نسائية ضاحكة .. فقال جهاد واجما :- هل ضيوفك كثر ؟
:- أي ضيوف يا رجل .. ليس هناك سوانا .. أنا وأنت .. وفتياتنا المغناجات .. هذه الليلة هديتي إليك .. احتفالا بعودة جهاد الوحش .. الذي ما كان أي شيء بكافي لإبعاده عن الجري وراء المتع
الشقة كانت كما يذكرها تماما .. صغيرة وضيقة .. أثاثها قليل .. مرتبة دون نظافة حقيقية .. كانت شقة عازب فاسد نموذجية .. في الداخل .. كانت ثلاث فتيات شابات ترقصن على انغام الموسيقى الشرقية بملابس مختصرة للغاية .. أظهرت أكثر مما اخفت .. لم يتعرف إلا على واحدة منهن .. ذات شقرة مصطنعة .. وزينة ثقيلة .. اقتربت منه وهي تتمايل بغنج قائلة : حبيبي جهاد .. لقد مرت فترة طويلة .. لقد اشتقت إليك
طبعت قبلة على وجنته فأبعدها تلقائيا وهو يمسح أثار قبلتها بازدراء .. ويقول باختصار :- مشاغل
قال فادي من وراءه وقد تأبطت ذراعه فتاة أخرى .. لقد ابعده عنا زواجه .. أم هل أقول بانه قد أعاده إلينا
تعالت الضحكات فزادت من إحساس جهاد بالنفور .. وتساءل باستنكار عن الحياة الفارغة والحقيرة التي كان يعيشها في الماضي .. ثم ردد مجددا السؤال الذي ما انفك يطرحه على نفسه منذ اتصل بفادي .. ما الذي جاء به إلى هنا ؟
جلس على الأريكة المتسخة .. وراقب بعينين لا تريان الاجساد المتمايلة امامه بقصد إغراءه .. بينما عقله يفكر بلا توقف .. إنه بعرف ما جاء به إلى هنا .. إنها كلمة الطلاق التي نطقت بها سلام .. التفكير بانها ستتركه وترحل .. جعل ذعرا شديدا ينتابه .. إدراك بانها رغم كل شيء قد نجحت في التغلغل داخل كيانه .. وزرع جذورها داخل روحه بعمق .. وأنه لن يستطيع العيش بدونها أبدا .. لا .. إنه لا يريد غيرها .. وما جاء به إلى هنا غير رغبته في امتحان نفسه .. وإثبات ما سبق وأدركه .. وهو أن كل نساء الأرض قد أصبحن سواء منذ نظرت إليه ملاكه الجميل .. بعينيها الحزينتين .. منذ لمسها وجعلها ملكه في ليلة ظنها ليلة عمره ..
لقد استعبدته تلك المراة .. استعبدته وحصلت على روحه قبل جسده منذ سنتين .. وأي محاولة منه للتحرر من تأثيرها ما هي إلا مجرد عبث .. عبث لا طائل من وراءه
لاحظت رهف نظراته الساهمة البعيدة عن مفاتنها .. فانضمت إليه فوق الأريكة .. والتصقت به حتى يشعر بكل جزء من تضاريسها وهي تقول له بصوتها الأبح :- ما الذي يشغل بالك أيها الوسيم ؟ استطيع أن أنسيك إياه خلال لحظة
نظر إليها .. إلى وجهها الملطخ بالأصباغ .. وقارنه بوجه حبيبته الناعم البريء .. ثم قال بجفاف :- أشك بانك تستطيعين
وقف فجأة مما أدهش فادي الذي تبعه نحو الباب قائلا بتوتر :- ما الأمر يا جهاد ؟ ما الذي أزعجك ؟ اهي رهف ..أستطيع إخراجها من هنا إن لم تكن ترغبها
قال جهاد بفظاظة :- المشكلة ليست بالمرأة .. بل بكل هذا
أشار إلى المكان الموبوء المحيط به .. وقال بازدراء :- لقد جئت فقط كي أثبت لنفسي بأنني قد تغيرت يا فادي .. الكحول .. والمتعة الحرام .. ليسا كافيين بعد الآن لمنحي ما أحتاجه .. ستعرف ما أعنيه يوما .. وأتمنى ألا يكون بعيدا .. حتى لا تضيع المزيد مما ضيعته من حياتك
ثم وبدون أن ينتظر كلمة من فادي المذهول .. غادر المكان
عندما دخل إلى الشقة في ساعة متأخرة من الليل .. كان صوت غريب هو أول ما لفت نظره .. لا .. لم يكن صوتا غريبا .. بل هو صوت سلام .. كان قادما من داخل غرفتها المواربة الباب بشكل مكتوم وكأنها تتعمد خفضه .. إلى من تتحدث يا ترى في هذه الساعة المتأخرة ..؟ أول صورة قفزت إلى ذهنه .. صورة العشيق الغامض الذي أحبته روحا وجسدا .. اشتعلت الغيرة داخل قلبه .. وأحس بجسده يتصلب وأطرافه ترتعش غضبا .. سار بخطوات بطيئة .. حذرة .. نحو الباب الموارب .. دون أن يصدر صوتا عله يسمع ما تقوله لمحدثها .. إلا أن الهمهمة لم تكن مفهومة له .. مد رأسه ينظر عبر فتحة الباب .. فاتسعت عيناه ذهولا وهو يجد سلام جالسة فوق السرير .. وقد أحاطت رأسها بمنديل أبيض.. جعل هالة من السمو تحيط بها .. تحمل بين يديها كتاب سميك .. تقرأ ما فيه بصوت منخفض وهي تحرك رأسها بتناغم مع قراءتها .. وقد غطت الدموع وجنتيها الناعمتين .. وبدا وجهها شاحبا وكأنها قد رأت لتوها شبحا
لقد كانت تقرأ القرآن .. أمام هذه الحقيقة التي اكتشفها .. جمد جهاد لدقائق واقفا مكانه دون أن يبدو على سلام أنها قد أحست به .. ينظر مبهورا إلى الفتاة التي أحبها .. وهي تستعين بآيات الله على مصابها ..
لو كان رجلا حقيرا .. لدخل عليها في هذه اللحظة وانتزع الكتاب المقدس من بين يديها .. وهزء من تظاهرها بالتقوى رغم ماضيها المشين .. إلا أنه عندما نظر إليها .. عرف بأنه لم ير في حياته مشهدا أجمل .. وعرف أيضا بأن سلامه مهما كانت فعلتها .. فهي أطهر نساء الأرض .. طاهرة الروح .. وإن كان جسدها ملوثا ..
كيف ظن لوهلة أنها قد تخونه ؟ كيف ؟ .. حتى لو كانت في قرارة نفسها تحب رجلا آخر .. فإنها ما كانت لتدنس بيته أبدا .. جزء منه عرف وقدر .. وتأكد بأنه يعرف سلام حق المعرفة .. وأنه ليس من حقه أبدا أن يؤذيها ويطعنها في أخلاقها .. في الوقت الذي قادته رجلاه بكل إصرار نحو الخطيئة هذا المساء .. صحيح أنه قد عاد أدراجه ورفض أن يغوص في ذلك المستنقع من جديد .. إلا أن النية كانت موجودة .. ألا يجعل هذا منه رجلا حقيرا ؟
لم تشعر به سلام وهو ينسحب بعيدا عن الباب بنفس الهدوء .. بل كانت تتلو الآيات القرآنية وهي تشعر بحاجة ماسة للشعور بالسلام بعد الكابوس المريع الذي أيقظها من نومها .. إنه نفس الكابوس الذي كان يطاردها لفترة طويلة .. توقف لفترة عندما تمكنت من تحقيق بعض التوازن النفسي في حياتها .. وهاهو يعود من جديد وكأنه يذكرها مما مضى .. ويحذرها مما هو آت .. يا الله .. ليس المزيد .. لن أستطيع تحمل المزيد .. عادت دموعها تتدفق بغزارة وهي تغمض عينيها بقوة وتضم القرآن إلى صدرها .. وتحاول محو المشاهد السريعة التي مرت على مخيلتها .. عادت تردد ما تحفظه من المعوذات حتى سمعت ضجة ما .. فتحت عينيها برعب في البداية .. ثم سرعان ما ميزت صوت المرشاش الصادر من الحمام الذي اعتاد جهاد استعماله .. لقد عاد .. إنه هنا الآن .. إلى جوارها .. ولن يصيبها مكروه ما دامت معه .. تمددت على السرير .. وقد بدأت السكينة تنشر أجنحتها حول روحها .. ثم شيئا فشيئا .. عادت سلام إلى النوم بدون أحلام هذه المرة
(سلمت يداك يا حبيبتي .. أنا فخورة حقا بزوجة ابني الجديدة )
قالتها السيدة جهان أثناء استعدادها للخروج مع زوجها وباقي أفراد العائلة من شقة جهاد بعد وجبة العشاء الشهية التي قامت سلام بإعدادها على شرفهم
ارتفع صوت نورا يقول مازحا :- زوجة ابنك الأخرى ستموت من الغيرة في هذه الحظة يا حماتي العزيزة
ضحك الجميع بينما قالت السيدة جهان ضاحكة :- زوجة ابني الأخرى يجب أن تهتم بحفيد عائلة فهمي الأول وإلا ندمت
قفزت سارة كالعادة بينهما وهي تقول عابسة :- وماذا عن أبنائي الثلاثة ؟ هم أحفاد عائلة فهمي كذلك .. صحيح ؟
جذبها فراس إليه قائلا :- أبنائك الثلاثة مع المربية في انتظار عودتنا إلى البيت .. فتوقفي عن المشاكسة عند كل كلمة لا تنال إعجابك وتحركي أمامي
هلل الكل مرحبا بالطريقة التي اعتاد فراس فيها كبح جماح لسان سارة السليط .. بينما اقترب والد جهاد منه .. وربت على كتفه قائلا :- أنا سعيد لأجلك يا ولدي ..
نظر الاثنان نحو سلام التي بدت في غاية الرقة والجمال بعباءة زرقاء فضفاضة ... تشع حيوية ونشاط وهي تتبادل الحديث مع حماتها عند الباب .. قال والده بخفوت :- لقد منحك الله عطية .. فلا تفرط بها ..
فكر جهاد عابسا .. ألا يعرف هذا جيدا ؟؟ .. ما الذي ستقوله يا أبي إن عرفت كل ظروف زواجنا ؟ هل ستحكم على سلام كما فعلت أنا منذ ليلة زفافنا .. أم ستتفهمها كما لم أفعل ..؟
بعد رحيل الجميع .. اغلق جهاد الباب .. والتفت إلى سلام التي تمتمت دون أن تنظر غليه :- سأنظف المكان
سارت إلى المطبخ بينما راقبها هو دون أن يقول شيئا .. الوضع بينهما على هذه الحالة منذ آخر مواجهة لهما معا بعد عودتهما من المزرعة .. بالكاد يراها .. أو يتحدث إليها .. وما الذي سيقوله لها ؟ الشيء الوحيد الذي يعرف بأنه يكاد يموت شوقا لسؤالها عنه .. هو صديقها الذي سبقه إليها .. لن يهدأ حتى يعرف كل شيء عنه .. من يكون .. أين هو الآن .. ما الذي يعنيه لسلام ؟ .. هل مازالت تحبه ؟ ويعرف أيضا بأنه لن يتمكن من منع نفسه من إيذائها بكلماته القاسية إن تحدث في الأمر .. لهذا كان يبتعد عنها .. يتحاشى التحدث إليها أو حتى التواجد معها .. فهو لن يتمكن من الانفراد معها في مكان واحد دون أن يلمسها .. سيجن إن لم يفعل .. وبما أنه قد فقد الحق بهذا .. فمن الأفضل له أن يتحاشاه كما اعتاد أن يفعل منذ عاد ليراها تبكي في غرفتها دون أن تعرف بأنه يراقبها
استمع إلى تحركاتها المكتومة في المطبخ .. ثم وبدون أي تردد .. فتح باب الشقة .. وخرج مغلقا الباب وراءه بهدوء
توقفت سلام عما تقوم به فور سمعت صوت الباب .. لقد عرفت بأنه سيغادر فور رحيل عائلته .. كما اعتاد أن بفعل منذ فترة .. يذهب إلى مكتبه في الشركة كما سمعت مرة منه .. ولا يعود إلا متأخرا ..
لثوان طويلة ظلت واقفة مكانها وكأنها تحاول أن تجبر نفسها على متابعة التنفس .. ثم جرت نفسها جرا إلى خارج المطبخ .. وقفت في غرفة المكتب التي اعتاد النوم فيها .. والتي كانت مرتبة اليوم استثنائيا بسبب زيارة عائلته .. تذكرت الفوضى العارمة التي كان يتركها ورائه كل يوم عند خروجه .. حيث تدخل إليها وتتلمس أغراضه باكتئاب دون أن تجرؤ حتى على ترتيبها .. وتتخيله نائما على الأريكة الوثيرة المواجهة للمكتب الكبير .. تنهدت بألم وهي تتساءل .. إلى متى .. إلى متى ستبقى تعيش في هذا العذاب ؟.. قريبة منه .. وأبعد من نجوم السماء عنه
تناولت أحد قمصانه المعلقة وراء الباب .. وضمته إلى صدرها .. تنشقت رائحة عطره الممزوجة بعرقه الرجولي .. وشهرت بالشوق إلى دفء جسده .. وحرارة لمساته .. وإلى نظرة الحب التي أهداها إياها ليلة زفافهما .. هل ستتمكن من نسيانه فور انتهاء زواجهما الكارثي وعودتها إلى بيتها .. هل ستتمكن من نزع حبه من قلبها والتظاهر بأنه لم يعشقه بجنون يوما ؟
مدت يدها بالقميص تعيده إلى مكانه .. عندما تعلقت أنظارها بتلك البقعة الحمراء التي لطخت ياقة القميص .. بيد مرتجفة .. قربتها .. لتميز أحمر الشفاه الفاقع اللون .. العائد قطعا لامرأة أخرى .. امرأة منحها جهاد الحق بالتمتع بقربه .. وحبه .. ورجولته .. امرأة أخرى تطاولت على ما هو لها .. وهل كانت جهاد يوما لها ؟
نظرت إلى الباب لتجد جهاد واقفا هناك .. جامدا مكانه .. يحدق في القميص .. والبقعة الحمراء ا لتي بدت واضحة كالشمس تحت أنظاره .. رمشت سلام بعينيها محاولة منع الدموع التي أسرعت متلهفة بالتجمع عند حافة جفنيها من تجاوزهما .. وتحت تأثير اضطرابها والألم الكبير الذي افترسها .. سقط القميص من يدها على الأرض .. فلم تستطع تناوله من جديد .. تحاشت النظر إلى جهاد وهي تهمس بشفتين مرتعشتين :- أنا .. أنا آسفة
وأسرعت دون ان ترى أمامها بالخروج من الغرفة .. بينما انحنى هو ليتناول القميص .. ويحدق بجمود في علامة الخطيئة التي وشمت ياقتها .. ثم جلس على طرف الأريكة مخفيا وجهه بين يديه وهو يفكر بإرهاق .. أما من مهرب من كل هذا العذاب ؟

رواية سلام لعينك لكاتبة بلومىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن