الفصل السابع عشر والاخير

2.5K 69 7
                                    

الفصل السابع عشر والأخير
سلام لعينيك

لم يشعر جهاد بأي ألم بعد ان كاد صوت الطلق الناري يصم أذنيه .. أهذا يعني أنه قد مات ؟؟ أحس بثقل كبير فوق جسده .. ففتح عينيه مذهولا ليدرك بأن مسدس ماجد قد سقط من يده .. وأن رأسه قد انحنى إلى الأمام كأنه قد نام فجأة .. بينما أحس بالرطوبة تغرق قميصه والسجادة الوثيرة من تحته شيئا فشيئا
أبعد جسد ماجد عنه فارتمى على الفور إلى جانبه بلا حراك .. وتمكن جهاد من رؤية الثقب الذي اخترق عنقه فتدفقت منه الدماء الغزيرة التي سبق ولطخت ملابسه.. استوعب الحقيقة ببطء شديد .. لقد مات ماجد
رفع عينيه نحو سلام التي كانت واقفة على بعد مترين .. ممسكة بين يديها بمسدسه هو الذي ألقاه قبل دقائق فقط من يده كي يقنع ماجد بتركها وشأنها
حدق مذهولا .. بجسدها الشامخ الرشيق .. ووقفتها الصلبة .. وملامحها التي اتسمت بالكراهية والتصميم .. وبريق الغضب الوحشي يلمع في عينيها الذهبيتين .. لم يستطع إزاحة عينيه عنها في تلك اللحظة .. فقد كانت سلام القديمة .. سلامه هو .. القوية والمحاربة التي أنقذت حياته قبل سنتين .. تقف أمامه كما عرفها آنذاك .. وها هي تنقذ حياته للمرة الثانية ..
وقف ببطء .. فساهم تحركه في إعادتها فجأة إلى الواقع .. أجفلت وهي تحدق به .. ثم إلى جسد ماجد الغارق في الدماء .. ثم إلى السلاح الرابض بين أصابعها .. انتفضت .. وكأنها قد أدركت ما قامت به .. وعلا وجهها ذلك التعبير الذي يعرفه جيدا .. التعبير الذي حمل الرعب والذعر .. والصدمة ..
اقترب منها بينما بدأت بالارتعاش .. فتراجعت إلى الخلف وجلة .. وكأن عقلها الباطن لم يسجل بعد حقيقة زوال الخطر عنها .. قال بهدوء :- اهدئي يا حبيبتي .. لقد انتهى الأمر .. انتهى .
نظرت إليه غير مصدقة .. ثم إلى ماجد مجددا .. قبل أن يسقط المسدس من يدها .. وتسقط فاقدة الوعي بين ذراعي جهاد .. الذي ضمها إليه بقوة غير قادر على كبح دموعه .. جثى على الأرض ممسكا بها .. يدس وجهه بين حنايا عنقها وخصلات شعرها يستنشق رائحتها بضعف .. ويحس برقة جسدها ملتصقا به .. لم يدرك بأنهما ما عادا وحيدين حتى سمع صوتا مألوفا يقول :- سيد جهاد
نظر إلى حارسه الشخصي الذي وصل متأخرا بعد أن اتصل به جهاد مباشرة قبل وصوبه إلى الشقة .. وبدا كأنه لن يمنحه ردا على نداءه .. وكأنه قد فقد حسه بالواقع قبل أن يقول أخيرا :- هل بلغت الشرطة ؟
:- الشرطة في طريقها إلى هنا
بالفعل .. دوى صوت صفارات سيارات الشرطة المميزة القادمة من بعيد .. بينما ازداد عناقه لسلام قوة وهو يهمس لها :- نعم ... لقد انتهى كل شيء يا حبيبتي .. انتهى كل شيء
بالكاد كان جهاد واعيا لأسئلة ضابط الشرطة .. عقله كان ما يزال مذهولا بالطريقة التي جرت عليها الأحداث .. ما زال غير قادر على استيعاب أن الكابوس قد انتهى أخيرا .. سنتان كاملتان .. قضاها هو غاضبا وقلقا من نوايا ماجد .. وقضتها سلام في معناة قاسية من ذكريات مريرة وخوف دفين من العار والفضيحة
لقد انتهى كل شيء .. أليس كذلك ؟
نظر إلى سلام التي كانت جالسة في زاوية الصالة .. ذاهلة منذ استعادت وعيها .. شاخصة النظرات .. ترتجف رغم البطانية التي تبرع حارسه الذي كان أكثر تماسكا منه بإحضارها لها من غرفة النوم .. يجلس إلى جانبها حسام .. يحاول التحدث إليها .. واستخلاص أي استجابة منها دون فائدة ...
نعم .. حسام كان هناك .. كما كان والده وفراس .. ليقفوا إلى جانبهما في هذه اللحظات الصعبة .. الكل كان مرتاحا لانزياح الكابوس عنهما أخيرا ... وقلقا أيضا من تأثير ما حدث على العروسين الجديدن .. بالأخص .. على العروس التي قتلت ماجد بيدها .. ماجد الذي ما تزال جثته حتى الآن في مكانها .. وقد قام أحدهم بتغطيتها بقطعة من القماش ..
لم يستطع هذه المرة الاتصال بعائلتها .. أولا .. لأنه عرف بأن خالتها لن تحتمل قسوة ما حدث .. وثانيا .. رغبته الشديدة بأن يكون هو من يعتني بسلام .. ويمتص منها آثار الصدمة
وكأن والده قد لاحظ معنى نظراته التي تجمدت فوق سلام .. فاقترب منه مربتا على كتفه قائلا :- أنت بحاجة إلى الراحة يا ولدي .. خذها من هنا .. تحتاج زوجتك للابتعاد عن هذا المكان .. خذها واعتني بها جيدا .. وأنا وشقيقك .. سنهتم بكل شيء .. ولا أظن حضرة الضابط يمانع
لم يسمع جهاد رد الضابط .. بل لم يمنح والده ردا .. اتجه نحو سلام حيث وقف حسام مفسحا له الطريق .. إلا أنه لم يجلس مكانه .. بل انحنى يحملها بين ذراعيه .. وغادر المكان بدون أي كلمة
ساد الصمت بينهما في السيارة بينما يقودها جهاد إلى خارج المدينة .. وهو يلقي النظرة القلقة تلو الأخرى نحو سلام التي ما زالت محتفظة بجمودها ..
فتح الحارس بوابة المزرعة أمامهما .. وسرعان ما اختفى تاركا لهما المكان .. حملها جهاد خارج السيارة وسار بها إلى داخل المنزل الصغير .. صعد بها إلى الطابق العلوي حيث مددها على أحد الأسرة العريضة .. وجلس إلى جانبها .. نظر إليها مطولا والدموع تغشي عينيه .. وقد غلبته مشاعره .. يا الله كم يحبها .. وكم يحتاج إليها .. كم يحتاج إلى أن يمنحها الحب والرعاية .. أن يعوضها عن كل ما عرفته في حياتها من ألم ومرارة بسببه .. أغمض عينيه تاركا الدموع تتجاوزهما .. أمسك رأسه بيديه وهو يتساءل .. كيف أستطيع أن أنسيها ما حصل .. كل ما حصل .. ليتنا التقينا يا حبيبتي في زمن آخر .. لا ماجد فيه .. ولا حتى عماد .. الغر الساذج الذي أفسد حياتك برعونته وجبنه .. كان متأكدا بأنه حتى لو اختلفت ظروف لقائهما .. فإنه كان ليحبها بنفس الطريقة .. وبنفس القوة .. لعرفها من بين مئات النساء .. وأدرك بأنها نصفه الآخر .. توأمه .. ملاكه الجميل القوي والشجاع ..
أحس بأناملها تلمسه برقة .. ففتح عينيه .. ونظر إليها بلهفة .. كانت عيناها الذهبيتان غارقتين بالدموع .. بنظرات حزن عميق وكأنها لم تحتمل رؤية ألمه .. بدون أن يقول أحدهما أي كلمة .. تمدد إلى جوارها .. وضمها إلى صدره بقوة .. فأجهشت بالبكاء وهي تحتمي بجسده القوي .. بكت وبكت كما لم تفعل يوما .. بكت الخوف والظلمة الذين عاشت فيهما السنتين السابقتين .. بكت الحب الكبير الذي تكنه لهذا الرجل وحاجتها الشديدة إليه .. بكت أحداث اليوم العنيفة والقاسية عليها .. بكت مستسلمة للمساته الحنون .. وهمساته الدافئة .. بكت حتى استسلمت للنوم أخيرا بين ذراعيه وهي تشعر في النهاية بالضعف والارهاق .. وبالأمان

رواية سلام لعينك لكاتبة بلومىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن