الفصل الثالث

2.1K 65 1
                                    

ارتفعت طرقات هادئة على باب غرفة سلام صباح اليوم التالي .. تبعه صوت عماد يقول :- سلام .. أ ما زلت نائمة ؟؟؟
فتح الباب بحذر ليجدها جالسة فوق السرير الضيق .. تضم ركبتيها إلى صدرها .. وتنظر إلى الفراغ بشرود .. وقد كسا الشحوب وجهها .. وتقوس فمها وكأنه لم يعرف يوما الابتسام
ارتبك للحظات وقد انتابه القلق الشديد لهذا المشهد .. فهو لم ير سلام في هذه الحالة الغريبة من الانعزالية والشرود منذ فترة طويلة .. قال بقلق :- سلام
نظرت إليه لوهلة بدت خلالها كمن ينظر إلى وجه غريب لا تعرفه .. ثم هزت رأسها بقوة نافضة حالة الجمود تلك .. وابتسمت لابن خالتها قائلة :- صباح الخير يا عماد .. كم الساعة بالضبط؟
قال بتوتر :- السابعة والنصف .. منذ متى وأنت مستيقظة ؟
عرفت سبب توتره .. كما عرفت بأنها لو أخبرته بأنها لم تنم على الإطلاق .. فسيفقد عقله ويجن قلقا .. فقالت برقة :- منذ فترة قصيرة فقط .. وأشعر بجوع شديد قد ينتهي بي للقضاء على بقايا كعكة الأمس
ابتسم مطمئنا .. وقال :- لا تحلمي بهذا .. لقد سبق وأخرجتها من الثلاجة .. وإن لم تسرعي أجهزت عليها بمفردي
ضحكت مازحة :- سأقتلك إن فعلت
غادر الغرفة بعد أن أخذ منها وعدا باللحاق به .. إلا أن سلام بقيت مكانها لدقائق .. والأفكار التي لم تفارقها طوال الليل تهاجمها مجددا
جهاد فهمي قد عاد مجددا .. جهاد فهمي .. جهاد .. لقد تذكرته فور أن أشار إلى المكالمة الهاتفية .. فقد أثار صوته المتسلط داخلها اضطرابا عظيما لم تعرف تفسيره إلا لاحقا .. إذ أدركت بأنها لم تنسه على الإطلاق في اللحظة التي اقتحم فيها مكتبها وحياتها بوجوده المربك .. وتهديده
هل كان جادا في تهديده لها بأذية عماد ؟؟؟؟ إن كان كذلك .. فهل يتوجب عليها أن تطلع عماد على هذا اللقاء كي تحذره على الأقل ؟
مجرد علم عماد بظهور الرجل الذي سبق له اختطافه .. كفيلة بتدميره وإعادة ذلك الفتى الخائف الضعيف إلى الحياة مجددا بعد أن بذل جهدا كبيرا في دفنه .. لا .. لن تخبره الآن .. ستؤجل الأمر حتى تتحدث إلى جهاد فهمي هذا المساء وتعرف نواياه .. بقدر ما تكره رؤيته مجددا لما تثيره لديها من ذكريات بغيضة لمرحلة ترغب في نسيانها .. بقدر ما تشعر بالاضطراب الشديد لفكرة لقاءه مرة أخرى .. شيء يشبه الشوق .. لا .. أهذا ممكن ؟ . لفترة طويلة كانت سلام تنفر من كل ما هو مذكر .. تمتعض إن نظر إليها رجل بشكل عارض .. وعندما وجدت جهاد يقف داخل مكتبها بدون إنذار .. كادت تفقد صوابها حتى عندما عرفت من يكون .. وفي اللحظة التي انحنى قريبا منها .. تمكنت من الابتعاد عنه بصعوبة بالغة دون إثارة فضيحة .. إلا أن جزءا منها لم ينقطع لحظة واحدة عن التفكير به منذ تركته ملقى على قارعة الطريق .. في صراع مع الموت .. كانت ترى عينيه بلونهما الغريب في أحلامها فتشعر بالدفء والسكينة .. إلا أنهما سرعان ما كانا ينقلبان إلى عينين سوداوين بغيضتين كانتا توقظانها دائما صارخة .. ذكرى جهاد فهمي مقترنة في أعمق أعماقها بأسوأ تجربة مرت بها في حياتها .. إلا أن هذا لم يمنعها من تذكر مظهره ذلك المساء .. بجسده القوي الأسمر اللامع بالعرق .. بتقاطيع وجهه الرجولية الخشنة الوسامة .. مساء الأمس .. كان يبدو مختلفا .. ولكنها لم تستطع إلا أن ترى الرجل نفسه الذي سكن خيالها لفترة طويلة .. استطاعت أن ترى الجسد الضخم المغطى بالبذلة الأنيقة .. والملامح المصممة والقاسية .. إنه نفس الرجل .. الرجل الذي عليها تحاشيه أكثر من أي شخص آخر ..
ولكن هل تجرؤ على التخلف عن موعدهما ؟ ..لقد أوضح لها بأنها لا تملك خيارا آخر .. ومادامت حياة عماد واستقراره مهددين .. فهي حقا لا تملك خيارا إلا مواجهته .. ومعرفة ما يريده بالضبط
بدلت ملابسها .. وانضمت إلى خالتها وفاء وعماد على مائدة الإفطار في المطبخ الصغير .. بذلت جهدا كبيرا في إخفاء اضطرابها وهي تستمع إلى مزاح خالتها وهي تصف عماد وخطيبته رؤى في حفلة الأمس بعصافير الحب العاشقة
.. فعلا .. كان شكلهما رائع الجمال أثناء تبادلهما نظرات الهيام خلسة وأثناء إطعام احدهما الآخر بيده .. بعد ما عاناه عماد حتى يبني حياته من جديد .. لن يحتمل أبدا أن يتهدم ما بناه خلال لحظة بسبب غلطة قديمة
جهاد فهمي قادر تماما على هذا .. فعندما عرفت من يكون .. تملكتها صدمة عنيفة وقد أدركت بأنها تعرف جيدا من يكون جهاد فهمي
إنه عميل مهم جدا لمخدومها .. وقد سمعته يتحدث مرارا عن الامبراطورية التي أسسها خالد فهمي الجد من العدم قبل سنوات طويلة .. والتي تضاعف حجمها فيما بعد على يد ابنه أحمد فهمي .. أما الآن .. وبفضل جهود الحفيد الأكبر الذي استلم المسؤولية إلى جانب والده منذ سنوات .. فإنها تعتبر الامبراطورية التجارية الأكثر نجاحا وتطورا في المنطقة
ستراه اليوم لتعرف ما يريد .. وكل ما تتمناه .. هو ألا تكون مخاوفها منه مبررة .. وأن تكون قادرة بطريقة ما على إقناعه بتغير عماد وتخليه عن حياة الاستهتار .. وبناءه الجدي لمستقبله
قاطع أفكارها صوت خالتها يقول بحنان :- لكم أتشوق إلى ذلك اليوم
انتبهت سلام إلى أن الحديث موجه نحوها كما نظرات كل من خالتها وعماد .. فقالت بارتباك :- أي يوم ؟
قال عماد ضاحكا :- أين شرد عقلك يا أختي الصغيرة .. أمي تتحدث عن اليوم الذي سنزوجك به ونتخلص منك إلى الأبد
شحب وجهها .. وصدرت عنها حركة لا إرادية سببت سقوط كوب الماء وانسكاب محتوياته على المائدة .. فأسرعت تنهض قائلة باضطراب :- سأجفف المكان
قالت خالتها وهي تقف بدورها :- سأفعل أنا .. اذهبي وجهزي نفسك كي تنطلقي إلى عملك قبل أن تتأخري
أسرعت سلام راكضة إلى غرفتها بينما تابعها عماد بنظراته متسائلا .. وأقفلت الباب ورائها وأسندت نفسها إليه وهي تمنع نفسها بصعوبة من الانهيار .. ثم عادت لتستجمع شجاعتها وتعتدل قائلة بعزم :- لن أكون يوما لرجل
بالكاد كانت سلام واعية لما تقوم به من عمل آلي في مكتبها .. أكثر من مرة نبهها السيد رياض لشرودها وسألها بقلق إن كانت بخير .. وإن كانت بحاجة إلى العودة إلى البيت لباقي النهار .. كانت ترد مذعورة بأنها بخير .. وتعود لتحاول منح عملها مزيدا من التركيز رافضة تماما العودة إلى البيت .. العودة تعني أنها لن تقوم بأي شيء غير التفكير .. وهي لا تريد أن تفكر .. خاصة باللقاء المنتظر ..
في تمام الساعة السادسة .. رتبت سلام مكتبها .. واستأذنت مديرها للمغادرة .. ثم تناولت حقيبتها وغادرت لتلحق بموعدها .. كانت قد تأخرت متعمدة في الوصول إلى مكان اللقاء .. أملا في أن يمل الانتظار .. فلا تجده حين تصل
مقهى أبتايت ..مكان ذو شعبية كبيرة .. وهذا لا يعني أنها قد زارته من قبل .. فهو مكان مكلف بالنسبة لإمكانياتها المتواضعة .. كانت تمر إلى جانبه يوميا أثناء سيرها في اتجاه محطة الباص .. وتنظر بشكل عابر نحو الناس المتأنقة والمرفهة التي ترتاده عادة .. لذلك .. شعرت بالارتباك وهي تدخل إلى المكان بساقين مرتعشتين .. وبنظرات قلقة .. بحثت بين الوجوه بحثا عن غريمها .. غافلة عن الرؤوس التي مالت لتنظر إليها بفضول
لم تكن واعية لجمالها الطبيعي المميز الملفت للأنظار بالرغم من ملابسها المتحفظة والأنيقة نسبيا .. وإخفائها لشعرها الجميل برفعه فوق رأسها لم يفعل سوى إظهار عنقها الرقيق الناعم .. واستدارة وجهها الفاتنة
تساءل جهاد وهو يراقبها من مكانه في الزاوية الخافتة الإضاءة .. منتظرا منها أن تراه في النهاية .. إن كانت تتظاهر بعدم إدراكها لتأثيرها على الآخرين
رأته اخيرا .. فالتقت عيناها بعينيه .. وارتعدت أوصالها من تأثير نظراته الشبيهة بنظرات فهد متربص بفريسته .. لم يكن اليوم أقل أناقة .. وإن تخلى عن الحلة الرسمية واستبدلها بملابس أكثر راحة .. في الواقع .. كان يبدو رائعا وقد برقت عيناه في الإنارة الخافتة وهو يراقبها من حيث يجلس ..
قاومت رغبة عارمة في ا لاستدارة والهرب .. ولكنها رفضت فكرة استسلامها للخوف .. فهي إن لم تواجهه اليوم .. ستفعل في يوم آخر .. وهو سيحرص على هذا .. فلماذا تؤجل المحتوم ؟
سارت نحوه باتزان فوقف مستقبلا إياها باحترام ..دون ان تفارقها عيناه .. أزاح لها المقعد المواجه .. فشكرته هامسة وهي تجلس.. وعندما جلس مجددا أمامها .. قالت بتهذيب :- أعتذر لتأخري .. كان لدي عمل كثير بالكاد تمكنت من إنهائه قبل حضوري
فكر مستمتعا بان تهذيبها المزيف هذا .. لم يخدعه .. فكل نظرة وكل حركة منها كانت تظهر نفورها من هذا اللقاء :- لا بأس ... كنت سأبقى في انتظارك مهما تأخرت
نظرت إليه عابسة وقد لاحظت المكر في عينيه .. هل كانت خيبة أملها واضحة على وجهها عندما رأته في انتظارها ؟
دفعها غيظها لأن تقول بحدة :- لم لا ندخل في صلب الموضوع إذن فتخبرني بما تريده مني قبل أن أعطلك أكثر ؟
أشار للنادل الذي أسرع يلبي طلبه وهو يقول بوداعة :- سنفعل بعد أن نشرب شيئا .. أو ربما نأكل وجبة خفيفة .. فلابد أنك جائعة بعد نهار العمل الطويل
كانت تتضور جوعا بسبب تجاهلها لتناول إي شيء منذ وجبة الإفطار .. ولكنها كانت ستلفظ أي لقمة تدخل جوفها من فرط التوتر .. فطلبت فنجانا من القهوة
ابتعد النادل ليحضر فنجانين من القهوة .. فالتفت جهاد نحوها قائلا باهتمام :- تبدين أكثر نحولا مما أذكر .. ألا تأكلين جيدا ؟
كادت تشتمه حقا لبرودة أعصابه .. وكادت تصرخ فيه غاضبة بأنه بالكاد كان واعيا تلك الليلة .. فما الذي يستطيع تذكره منها .. ولكنها أخذت نفسا عميقا تهدئ فيه من روعها .. ثم قالت بصبر :- هذا ليس من شأنك .. أرجوك .. دعنا ننهي ما جئنا لأجله .. ما الذي تريده مني بالضبط ؟
قال ساخرا :- تبدين في عجلة من أمرك
نظرت حولها بتوتر قائلة :- لم أعتد التواجد برفقة رجل غريب في مكان عام ..أشعر وكان الجميع ينظر إلي باستنكار .. كما انني لم أبلغ خالتي بتأخري .. وستقلق علي كثيرا
أخذت بتوتر تتأمل المكان الشديد الاناقة .. الطاولات المستديرة الخشبية .. والديكور الناعم الانيق الذي طغت عليه الالوان الداكنة .. الإنارة الرومانسية المناسبة لجلسة عشاق ساخنة .. بالإضافة إلى الموسيقى الكلاسيكية المثرة للأعصاب .. لن تخبره بسبب اضطرابها الحقيقي حتى لو هددها بالقتل
تأملها جهاد مليا وهو يفكر بأن نظرات الآخرين لم تكن استنكارا .. بل إعجابا بوجهها الملائكي .. وقوامها الملفت للنظر .. إدراكه لهذا جعل غيرة مفاجئة تعصف به .. ورغبة عارمة بأخذها بعيدا عن أعين الناس حيث تكون له وحده
كبت أحاسيسه العنيفة لمهارة وهو يقول بهدوء :- خالتك هي التي ربتك منذ وفاة والديك .. أليس كذلك ؟
:- نعم .. وهي تظن ...
قطعت عبارتها وهي تحدق به بدهشة .. ثم قالت بغضب :- يبدو أن تحرييك قد قاموا بعمل جيد .. ما الذي عرفته عني أيضا
قال محاولا تهدئتها :- لم أكن بحاجة لاستئجار أي تحري .. سكرتيرتي زميلة قديمة لك منذ أيام الدراسة .. وقد أخبرتني بكل ما أريد معرفته عنك
كيف نسيت أمر هالة .. لقد فرحت منذ فترة عندما تعرفت على صوتها عبر الهاتف .. أثناء تعامل رئيسها الطويل مع جهاد فهمي .. ولكنها لم تعرف بأن مخدوم صديقتها القديمة هو آخر إنسان قد ترغب بلقائه
ولكن .. هل هذا صحيح ؟ لطالما تساءلت خلال الفترة الماضية عما حدث له .. إن كان قد نجا أم مات جريحا حيث تركته .. أرادت أن تسأله .. لتعرف كيف نجا .. إلا أنها لم تجرؤ خشية أن يطرح هو الآخر عليها الأسئلة التي تخشاها .. تمتمت :- ما الذي أخبرتك به هالة بالضبط ؟
تراجع على مقعده قائلا بكسل :- أنك فتاة يتيمة .. مات والديها بعد ولادتها بأيام .. فتكفلت بها خالتها
التزمت الصمت فسألها برقة :- هل هذا صحيح ؟
تحت إلحاحه تمتمت :- بعد ولادتي لأيام أحست أمي بتوعك بسيط ... فتركتني عند خالتي وذهبت إلى الطبيب برفقة والدي .. ولم يعودا أبدا .. فقد تحطمت بهما السيارة في حادث سير عنيف .. راحا ضحيته معا
قال بتعاطف :- أنا آسف لمأساتك
هزت كتفيها قائلة :- لا تأسف لأجلي .. فقد كبرت معتقدة بأن خالة وفاء هي أمي .. ولم أعرف الحقيقة إلا عندما بدأت في الذهاب إلى المدرسة .. حيث فوجئت بالاختلاف بين اسمي واسم عماد .. اضطرت خالتي يومها لإخباري بالحقيقة .. وبما أنني لم أعرف والدي حقا .. لم أحزن طويلا .. خالتي وعماد كانا و سيظلان عائلتي الوحيدة
ضيق عينيه قائلا ببرود :- عماد هو ابن خالتك إذن .. وليس اخاك كما اوهمتني
قالت بانزعاج وتوتر :- كان عمر عماد سنة واحدة عندما مات والداي .. وقامت خالتي بعدها بإرضاعي بنفسها مع ابنها .. وهذا يجعل منا اخوين بالرضاعة .. انا لم أكذب عليك
قال ساخرا :- وهل مازال ابن خالتك يمتهن اختطاف الآخرين بين الحين والآخر ؟
احمر وجهها وهي تقول من بين أسنانها :- ما حدث قبل سنتين كان غلطة .. لم يتعمد أبدا إيذائك أو إيذاء أي أحد .. لقد تعرض للابتزاز وأجبر على فعل ما فعله
تمالكت أعصابها وأكملت :- عماد شخص مختلف اليوم .. إنه محاسب في مكتب محترم .. ولديه خطيبة وسيتزوجان بعد فترة .. إنه انسان جيد وحساس للغاية .. يجب أن تكون ممتنا له إذ لم يحتمل رؤيتك جريحا على شفا الموت .. فأحضرني علني أفعل شيئا لمساعدتك
قال ببرود :- انسان جيد وحساس .. ولكنه لم يتورع عن توريط فتاة بريئة في وضع خطر وذلك لتغطية اخطاءه
لقد كان محقا .. لسنوات طويلة كانت تكافح كي تمنع نفسها من لوم عماد على ما حدث ذلك اليوم .. ولن تفعل الآن .. قلبت لهجتها توسلا وهي تقول :- لو لم يورطني عماد لما تمكنت من مساعدتك على الهرب .. صحيح ؟.. ما حدث قد حدث .. وقد وعدتني بان تنساه
قال بجفاف :- ولكنني لم أفعل
الطريقة التي نطق فيها بكلمته جعلتها ترتجف .. ورغم هذا هزت رأسها قائلة بعجز :- أنت لم تبلغ الشرطة عنا .. صحيح ؟.. هذا يعني أنك على الطريق السليم نحو مسامحته على ما فعل
قال باحتقار :- لم أمتنع عن ذكر اسمه للشرطة من أجله .. أو حتى من أجل ذلك الوعد السخيف الذي انتزعته مني في لحظة ابتزاز .. لقد أسقطت اسمه من التحقيق وحملت ماجد المسؤولية كاملة لأجلك أنت فقط .. حتى لا يتورط اسمك في القضية
حدقت فيه باضطراب وهي تقول :- ولكن .. لماذا ؟
ضحك ساخرا :- ماذا تظنين ؟ انت انقذت حياتي .. وهذا اقل ما أستطيع فعله لأكافئك على صنيعك .. كما انني لن أستطيع الزواج كم فتاة لها سجل لدى الشرطة .. عائلتي لن تقبل بهذا بالتأكيد فهو يلطخ اسم العائلة
مرت لحظات قبل أن تبدأ سلام باستيعاب كلامه .. دارت الدنيا حولها .. ودوى ذلك الطنين في أذنيها مجددا .. ووجدت نفسها تقف لتقول بشراسة :- أنا لن اتزوج منك ولو كنت آخر رجل على وجه الأرض
اندفع الكرسي إلى الخلف بصرير عال ومزعج .. واندفعت شبه راكضة إلى خارج المكان متجاهلة ملاحقة العيون لها .. وهي بالكاد ترى امامها .. وقبل أن تصل إلى الشارع .. أمسكت يده القوية بذراعها .. وجذبتها بقسوة كي تتوقف عن الهر بالهستيري .. فوجدت نفسها ملتصقة بصدر جهاد الصلب .. ووجهها يواجه وجهه القاسي .. وقد استحالت عيناه إلى قطعتين من الجليد الاخضر اللون
قال من بين أسنانه :- ستتوقفين عن التصرف بجنون وإثارة الفضائح وإلا فسيحدث ما لن يسرك
إحساسها بقوته وضخامة جسده مقابلا لها جعلا الذهول والخوف يلجمان لسانها .. ويمنعانها من المقاومة وهو يسحبها بعيدا عن مدخل المقهى .. لاحظت رجلين شديدي الضخامة وقد احاطا بهما على الفور .. فأصدر لهما الأوامر بالانتظار عند السيارة .. ثم سار معها فوق الرصيف مبتعدا
سألته باضطراب :- من .. من يكونان ؟
قال باقتضاب :- يعملان لدي
عرفت بانهما ليسا إلا رجلي أمن مهمتهما مرافقته أينما ذهب فتمتمت :- لم أرهما داخل المقهى
:- عملهما أم يكونا خفيين عن الانظار
لابد انه قد بدأ باستخدامهما بعد حادثة اختطافه .. وتساءلت إن كان له أعداء آخرين يخاف على نفسه منهم ... فسألته غير واعية إلى اتجاه سيرهما :- لماذا تحتاج إليهما ؟
توترت ملامحه وهو يسير بها .. ثم قال :- لم يمسكوا بماجد قط .. والشرطة تقول بان خطره مازال موجودا
توقفت فجأة .. فأجبرته على التوقف والنظر إليها .. وملاحظة الذعر الخالص الذي ارتسم في عينيها .. وارتعاشه شفتيها وهي تقول بهستيريا :- لم يمسكوا به بعد .. هل ما يزال ماجد حرا ؟
درسها للحظات مقدرا ما مرت به بدورها من خوف منذ سنتين .. وانتابه عطف وحنان كبيرين نحوها .. ورغبة عظيمة في حمايتها .. قال برقة :- لا داعي لخوفك ... كزوجتي .. لن يستطيع ماجد أو غيره الوصول إليك
هنا تذكرت ما دفعها للخروج من المقهى وكأن أسدا يلحق بها .. لقد أنستها إياه الصدمة .. ورغبتها بالهروب .. وحالة الضياع التي سببها لها ذكر ماجد
سحبت ذراعها من بين أصابعه قائلة بحدة:- أنا لم أوافق على الزواج بك .. في الواقع .. أنت آخر رجل أفكر بالزواج منه
قست ملامحه وهو يقول :- هل هناك رجل آخر ؟
نظرت إليه باستنكار قائلة :- هذا ليس من شأنك .. لست مضطرة لتبرير رفضي لك ..
حاولت تجاوزه ولكنه شدها بقسوة حتى شعرت بالألم الشديد والذعر لتهجمه وهو يقول بعنف :- هل هناك رجل آخر
لم تستطع إلا ان تصرخ به بانفعال :- لا .. ليس هناك أي رجل
هزها قائلا :- ما هو سبب رفضك الزواج بي إذن ؟
أحست بأصابعه القاسية تحرق بشرتها فجاهدت لتتخلص منها قائلة :- هل أنت مغرور إلى درجة عدم تقبلك لرفض أي امرأة لك .. أنت لا تعجبني .. أليس هذا واضحا .؟
قال بغضب :- من المؤسف أنني لا اعجبك .. فانت ستتزوجينني شئت أم أبيت .. لا خيار أمامك إن أردت الحفاظ على حياة ابن خالتك الجديدة من الدمار
هتفت بثورة :- أيها المبتز الحقير .. لا تدخل عماد في هذه المسألة
:- كيف لا أدخله وهو المسؤول عن إدخالك حياتي .. أستطيع بمكالمة هاتفية واحدة تدبر أمر طرده من عمله .. ودفع خطيبته لتركه .. وتشويه سمعته فلا يجد عملا آخر في أي مكان محترم
نظرت إلى التصميم في وجهه فقالت بكراهية :- كما فعلت بشقيق ماجد بالضبط .. أظنني أتفهم الآن كل ما فعله بك .. وأندم بشدة على مساعدتي لك
شهقت عندما دفعها أمامه ليدخل بها إلى شارع جانبي ضيق ومظلم .. فأدركت بانه مستغلا انشغالها بمناقشته أبعدها عن الشارع العام وعن أعين الفضوليين والمتطفلين .. إلى أزقة داخلية شبه مهجورة
دفعها ليلصقها بجار أحد الأبنية وحاصرها بجسده قائلا بلهجة مخيفة :- إياك واختبار صبري يا سلام وإلا ندمت .. أنا لا أمزح عندما أتوعد ابدا .. عماد سيكون في الشارع إذا أظهرت أي ممانعة لي .. أنت ستصبحين زوجتي .. وفي أقرب فرصة
ارتجفت وهي تشعر بنفسها سجينة ومهددة من جسده الضخم .. تلاحقت أنفاسها خوفا .. وكادت تفقد وعيها من شدة رعبها .. ولكنه لم يلاحظ ما يسببه لها من خوف بسبب الظلام .. كل ما كان يشعر به هو ارتعاش جسدها على بعد إنشات من جسده .. ورائحة عطرها الناعمة والمثيرة وصوت خفقات قلبها يدوي بسرعة كقلب عصفور صغير
همست بصوت مرتعش :- لماذا تريد الزواج بي أنا ؟ لماذا أنا ؟.. أنا متأكدة بأن الكثيرات تتمنين الارتباط بجهاد فهمي العظيم .. أحد أثرى العزاب في المدينة
قال بصوت غامض :- لقد سبق وقلت لك بانك ستدفعين ثمن ما فعلته .. وقد انتظرت لفترة طويلة وأنا أمني نفسي باللحظة التي سأجدك فيها وأسترد ديني منك
صاحت بيأس :- ما الذي فعلته حتى تكن لي كل هذا الحقد ؟
أمسك بذراعيها وهزها بعنف وهو يصيح :- ما الذي فعلته بي؟ ألا تعرفين ما فعلته بي ؟ لقد جعلتني أريدك .... تلك الليلة قبل سنتين .. وأنت تخففين عني آلامي .. أصبتني بلعنة لم أستطع منها فكاكا .. أراك كل يوم .. وكل ليلة .. في صحوي وفي نومي .. أهلك نفسي في العمل علني أعود فأنام بعمق دون ان أحلم بك وأتعذب بذكراك دون فائدة .. لقد سحرتني وجعلتني عبدا لك .. وأنت من سيحل عقدة هذا السحر .. ولن يكون هذا إلا بحصولي عليك كاملة
شهقت باكية بانفعال وقد اخترقتها كلماته .. واليأس القاتل في صوته .. ووجدت نفسها تقول بألم من بين أنفاسها :- انا آسفة .. أنا آسفة
رفع ذقنها لينظر إلى عينيها الجميلتين .. وشفتيها الرقيقتين والمرتعشتين .. فارتجف جسده بقوة جعل التأثير نفسه ينتقل إليها
لفهما جو من السحر وكأنهما قد انتقلا إلى عالم آخر لا وجود فيه لغيرهما .. قال بصوت مرتجف :- أريدك .. يا الله كم أريدك وأحتاج إليك
أحنى رأسه ليلمس شفتيها بشفتيه .. ويقبلها بعاطفة عاصفة زلزلت كيانها .. ارتعشت بين يديه وضاعت معه في البداية فاقدة كل صلة لها بأرض الواقع .. جزء منها كان مذهولا باستسلامها لما ظنت بأنها لن تقبله إلا ميتة .. هل هو تأثير هذا الرجل عليها ؟ .. هل نجح في ان ينسيها كل مخاوفها و وساوسها ؟
همس لها وهو يضمها إليه أكثر :- انت جميلة .. جميلة جدا
( جميلة .. جميلة جدا .. أكثر من اللازم في الواقع )
تسللت هذه الكلمات من وعيها الباطن .. ثم هاجمت كيانها كالجارح جين ينقض على فريسته .. أبعدته عنها بدفعة قوية أخذته على حين غرة حتى كاد يقع على ظهره أرضا
أحاطت رأسها بيديها .. تحاول إيقاف ذلك الضجيج الذي كاد يفجر أذنيها .. وصرخت بكل قواها :- توقف .. توقف
بالكاد سمعت جهاد ينادي باسمها .. إذ تهاوت بين يديه فاقدة الوعي

رواية سلام لعينك لكاتبة بلومىحيث تعيش القصص. اكتشف الآن