الفصل الثاني

467 20 1
                                    

تجلس على أحد المقاعد تحدق في ضوء النهار من خلف النافذة بملامح ساكنة حد الموت ..
أتكن طامعة إذا تمنت سرقة بعضًا من ضوء الشمس وحرارتها علها تدفئ روحها المتيبسة من فرط الصقيع الذي باتت تحيا داخله ؟!!
صقيع استفحل داخل عروقها فبات قطعة لا تنفصل عنها ..
صقيع يزداد ويزداد حتى تجمدت روحها فلم تعد تخشى لا فقد ولا موت .. !
هي جثة هامدة مُثل بها ..
والجثث لا تخاف الموت ولا تعرف سوى البرد !
تحسست قرطها بأطراف أصابعها وأغمضت عيناها بحرقة
تمنت أن تبكي، توسلت لربها حتى تضعف ولو للحظة فتبكي .. لكنها لم تستطع !
نضبت دموعها وماتت روحها بعد أن علمت أن زفافه أُقيم ليلة الأمس
ليث ..
شقيقها الذي كان بمرتبة اب لها
حاميها وصاحبها الأول
من كانت تختبئ وراء عباءته تحتمي به من عقاب والدتها بعد كل مصيبة تقوم بها
تزوج بالأمس وهي مازالت تختبئ بعد ان رفع عباءة حمايته عنها وتركها لبِشر كالهم الثقيل ..
كعار يجب مواراته ودفنه أسفل سابع ارض
وكأنها الجاني وليست المجني عليها !
أغمضت عيناها مرة أخرى فيعصيها الدمع ولا ينسكب
ابتسمت باستهزاء وهي تستعيد حديث غالية التي تتصل بها من فترة لأخرى من وراء والدتهما وكأنها باتت عفن استأصلوه من بينهم :
" سيتزوج من ليالي منعًا للثأر ، ليتك هنا يا فضة علك تخففين عنه قليلًا .. والله لو رأيتِ كيف يبدو سيذوب قلبكِ شفقة عليه "   
وهل ذاب قلبهم هم شفقة عليها ؟!!
كيف هانت عليهم فحاكموها على ذنبٍ لم تقترفه ؟!!
وكيف أتى على عقلهم أن يلوموها لأنها أبيه فدافعت عن نفسها وقتلته ؟!!
هل حقًا تستحق اللوم والعقاب ؟!!
ربما ..
ربما لأنها وثقت بمن كانت لا تستحق الثقة
ربما لأنها لم تكن لتتخيل يومًا أن تسلّمها من كانت أعز صديقة لها لأنياب أخيها فيغرسهم فيها بلا رحمة
ربما لأنها كانت ساذجة بما يكفي رغم ادعائها الفطنة والقوة فاطمأنت له وصدقته سابقًا حين اوهمها بعشق كاذب رغم عبثه المعروف عنه ..
رباه .. كيف شعرت يومًا بميل نحوه ؟!!
" غبية يا فضة .. غبية "
انتفضت حين فُتح الباب على حين غفلة فالتفتت لتجد سندس تدخل إليها ثم تغلق الباب ورائها فيما تسألها بخفة :
" كيف حالك اليوم ؟!! "
نظرت لها فضة واحتفظت بتعجبها الشديد لنفسها ثم قالت باختصار :
" بخير "
" لا تبدين كذلك "
همهمت بها سندس ببساطة فزفرت فضة بملل ثم سألت بنفاذ صبر :
" ماذا تريدين يا سندس ؟!! "
حاولت سندس التحكم في دواخلها كما طلبت منها الطبيبة النفسية اخر مرة ثم قالت :
" احاول بدء محادثة سلمية معك "
ضحكت فضة باستهزاء ثم رددت :
" محادثة سلمية معي ! .. منذ متى يا ابنة المنصوري ؟!! .. والله أنا على يقين بأنكِ الآن تمسكين نفسك بمعجزة حتى لا تتشاجرين معي لأي سبب تافه فتجدين لنفسك الفرصة حتى تهتفي بأن بِشر لكِ وكأنكِ تؤكدين لي الأمر "
عضت سندس على شفتيها من الداخل تكتم غيظها من تلك المستفزة التي اُبتليت بها إلى أجل غير مسمى لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها فتمتمت من بين أسنانها بنبرة مشدودة :
" وهل يجب عليّ أن أؤكد على تلك المعلومة اليوم أيضًا ؟!! "
هزت فضة رأسها بيأس لكنها لم تمانع في استفزازها اليوم أيضًا فقالت ببساطة شديدة :
" سأترك إجابة هذا السؤال لكِ "
زفرت سندس بضيق مدركةً أن فضة تمر بيوم عصيب فليلة البارحة أخبرها بِشر بأن زفاف ليث شقيق فضة أُقيم لكن بِشر لم يستطع الذهاب لأنه وحسب ما اُشيع في الوادي يمكث خارج البلاد لذا مؤكد أن هذا الأمر قد أثر على نفسيتها أكثر
حاولت سندس أن تغير دفة الحوار فسألتها :
" أخبريني ما رايك في ما يدور في الخارج ؟!! .. هل تصدقين عودة علي بعد كل هذه السنوات ؟!! "
كزت فضة على أسنانها وودت لو كان بإمكانها أن تصرخ في وجه الجميع أن الذي يدعونه علي ما هو إلا لص .. !
لص اقتحم المنزل منذ فترة لسبب مجهول ولم يراه سواها ..
لكن من سيصدقها ؟!!
إذا كانوا جميعًا أصبحوا لا ينظرون لها إلا كمختلة أو كلاجئة تستحق العطف
تذكرت عيناه فارتعش جسدها بموجة غضب ورعب وعقلها يُعيدها للمساته القذرة لجسدها في تلك الليلة اللعينة فتجمدت في مقعدها وهي تذكر أصابعه التي مرت على ظهرها وهو يعاركها ولمساته لذراعيها وضربه لها على مؤخرة رأسها فارتعد جسدها بنفور شديد ..
جذبة مفاجئة لذراعها أرعبتها فجعلتها تمسك بتلك الكف الفضولية بخشونة شديدة وتعتصرها بكل قوتها فتأوهت سندس لتنتبه فضة لما تفعله وتتركها على الفور بينما هتفت سندس بغضب :
" هل جننتِ ؟!! .. ستكسرين أصابعي "
لكن بدلًا من أن تعتذر فضة غمغمت بنبرة حادة وكأنها لا تزال تقبع تحت تأثير تلك الليلة :
" لا تجذبينني هكذا مجددًا "
" كنتِ شاردة وأنبهك "
هتفت بها سندس بضيق ليدخل بِشر في تلك اللحظة فيجد سندس تدلك أصابعها بألم بينما فضة تجلس بجسد مستنفر و كأنها على وشك خوض عراك فسألهن بقلق وهو يقترب من سندس :
" ماذا بكن ؟!! .. هل تتشاجرن من جديد ؟!! "
نظرت له سندس ثم قالت بغضب :
" كنت احدثها وفجأة شردت وحين أردت تنبيهها كادت أن تكسر لي أصابعي "
قطب بِشر بتعجب بينما عقبت فضة بملل :
" توقفي عن الدلال .. أصابعك لا تزال سليمة "
كادت سندس أن تتشاجر معها فأمسك بها بِشر قائلًا باسترضاء :
" حرير الجنة .. هلا تذهبين لمساعدة أمي وفداء قليلًا حتى أنهي حديثي مع فضة ؟!! "
لمعت الغيرة في مقلتيها فاستطرد بِشر بهدوء :
" عشر دقائق وسآتي ورائك "
" الحق على من أرادت السؤال عن حالك "
غمغمت بها سندس بطفولية ثم انصرفت تدب الأرض بضيق شديد بينما تابعت فضة خروجها بلا مبالاة لتعود بعينيها إلى بِشر الذي جلس أمامها سائلًا بهدوء :
" هل بتِ أفضل ؟!! .. هل أنتِ بخير ؟!! "
لوحت فضة بكفها وقد أصبحت تكره هذا السؤال فأدارت السؤال عليه قائلةً :
" الأولى أن أسألك انا هذا السؤال .. فلست أنا من وجدت اخي بعد سنوات "
ابتسم لها بِشر بسماحة نفس ولم يعقب على هذا الأمر ثم قال بإقرار :
" لقد علمتِ بزفاف ليث "
اضطربت نظراتها للحظة ثم قالت باستهزاء مصطنع :
" علمت ، العقبى لك "
" العقبى لكِ أنتِ يا طويلة اللسان "
التوت شفتيّ فضة بسخرية مريرة ولم تعقب بينما غمغم بِشر بحذر :
" هل لازلتِ عند رأيك ولا ترغبين بالذهاب إلى طبيبة نفسية ؟!! "
رفعت له عينان ناريتان ثم قالت من بين اسنانها :
" سأذهب حين أشعر بفقدان عقلي "
مجددًا لم يضغط عليها بِشر ثم نهض قائلاً :
" حسنًا .. تعالي لنتناول الطعام سويًا "
هل عليها أن تجازف وتخرج فترى ذلك اللص من جديد ؟!!
لا ، لن تفعـ.....
" هيااااااااااااا والآن .. ستتناولين طعامك معنا "
نبرة بِشر الصارمة جعلت فضة تنهض بضيق وتتحرك وراءه بآلية وحين اتبعته للخارج وجدت عينا الآخر بانتظارها وعلى شفتيه ابتسامة ذئبية مستفزة ودت لو تنسفها في الحال فاقتربت من مكان الجلوس مكرهة وجلست على طرف المقعد بضيق تتبادل نظرات نارية غير مفهومة معه وأخرى مثلها مع سندس
بعدها تجاهلت فضة وجوده ثم تمتمت وهي تشير بعينيها نحو اصابع سندس التي مازالت تدلكها :
" كيف الحال الآن ؟!! "
فترد سندس بغضب مكتوم :
" والله لأردها لكِ يا فضة "
التوت شفتيّ فضة بسخرية لاهية عن من يتابعها بطرف عينه والذي رفض تجاهلها له أكثر من ذلك فقال بشكل مفاجئ :
" Hello Silver "
نظرت له وكذلك فعل البقية فاستطرد بابتسامة مغيظة :
" لم نتعارف بشكل جيد .. أنا آل "
" فضة العامري "
غمغمت اسمها بضيق ووجهها يعلوه القرف لكن آل لم يبالي وقال باستفزاز وهو يلعق شفتيه :
" أراكِ لستِ مسرورة بعودتي كالبقية "
رفعت له فضة حاجبًا متهكمًا بينما نظر له بِشر وسندس بعجب ليجنحا نحو التفسير الأقرب لحديثه وهو انقلاب ملامح وجه فضة منذ الصباح :
" وما الذي سيضرني في عودتك ؟؟! "
هز آل كتفيه قائلًا ببراءة زائفة :
" لا أعلم .. ربما لأنك الوحيدة التي لم ترحب بي منذ اتيت ! "
حدقت فضة في عينيه بنظرة برية وكأنها على وشك الفتك به ثم قالت بلا حذر :
" رحبت بك سابقًا .. أم لعلك نسيت ؟!! "
وهنا انتقلت النظرات المتعجبة إليها بسبب نبرتها المتحفزة فتداركت نفسها واستطردت وهي تتجنب النظر لبِشر وسندس :
" رحبت بك حين وصلت مع الجميع "
فيستفزها آل أكثر ويهمهم بود زائد :
" ومع ذلك مرحبًا بكِ من جديد سيلفر "
" فضة "
كررت اسمها من بين أسنانها فنظر لها قائلًا بابتسامة هادئة استفزتها لأبعد حد :
" لا أستطيع نطقه بشكل جيد ، سأدعوكِ سيلفر أفضل "
استغفرت بخفوت وقالت من بين أسنانها :
" قلت اسمي فضة "
تدخل بِشر يغير دفة الحوار قبل أن تنقض فضة على اخيه وسأله بهدوء مصطنع :
" ماذا تعمل يا علي ؟!! "
نظر له بطرف عينه ثم أجاب :
" أمين مكتبة "
كتمت فضة ضحكة ساخرة كادت أن تخرج منها وهي تنظر إليه بتكذيب صارخ أما بِشر فانتظر توضيحًا ليغمغم الآخر :
" صديق لي لديه مكتبة كبيرة وأنا أساعده معظم الوقت في الإدارة أحيانًا والترجمة احيان اخرى "
" يليق بك "
التفت الرؤوس إلى فضة التي لم تحتمل واطلقت تعقيبها الساخر على قوله فارتسمت ابتسامة جانبية على شفتي آل ثم قال باستفزاز :
" شكرًا لكِ سيلفر .. سأجعلك تشاهدينها يومًا ما "
لوت فضة شفتيها بسماجة دون أن تعير حديثه أهمية
أما سميحة فعادت من جديد والتصقت به تربت عليه وتلمسه بلا توقف وشفتيها لا تتوقف عن التمتمة بالحمد والشكر بينما آل ظل متماسكًا هادئًا ودودًا ، تعلو ثغره ابتسامة ساكنة وعقله يموج به سؤال واحد ....
ما المانع من تكرار تجربته مع جدته العزيزة روڤانا لكن هذه المرة مع والدته الحبيبة ؟!!
___________________

ولما تلاقينا .. الجزء الثالث من سلسلة قلوب تحت المجهر حيث تعيش القصص. اكتشف الآن