الفصل الثاني والعشرون

313 19 2
                                    

( الوادي )

طرقات لحوحة على باب غرفتها جعلتها تغلق باب الحمام بسرعة وهي شبه تهرول نحو باب الغرفة لتفتحه ..
تسمرت قليلًا فور أن وجدت حماتها أمامها ترمقها بذات النظرات الصلبة التي لا تبارح مقلتيها أبدًا فغمغمت ليالي بتلجلج بسيط :
" أهلًا .. يا خالة ، تـ...تفضلي "
خرجت لهجة سعادات معها كنظراتها ..
متصلبة ، نافرة .. لا تلين
" لا تخرجي من الغرفة الساعتين القادمتين "
اتسعت عينا ليالي ثم اكتست نبرتها بالعجب وهي تسألها بعدم فهم :
" لماذا ؟! .. ماذا حدث ؟!! "
لحظات وتكلمت سعادات ببغض وكأنها تأبى اعتبارها إنسانة تعيش معهم وتستحق الشرح :
" لأن عبد العزيز قادم "
قطبت ليالي بحيرة ظهرت في سؤالها الخافت :
" وما المشكلة أنا لا أفهم ؟!! "
استعرت ملامح سعادات وكأنها تتحين الفرص لتضييق الخناق عليها فقالت من بين أسنانها :
" ما أمر به يُنفذ دون نقاش يا ابنة مصباح .. الرجل قادم ولا يصح أن تتحركي بحرية أمامه "
" من القادم يا أمي ؟!! "
خرج السؤال من ليث الذي ظهر من حيث لا تدري فزفرت ليالي براحة لفتت انتباه زوجها الذي عاد بتركيزه إلى أمه يكرر سؤاله بتروي :
" من هذا القادم يا أمي ؟!! "
التفتت له سعادات ترمقه بتحدي ثم قالت :
" زوج أختك "
اتسعت عينا ليث بغضب سيطر عليه قبل أن يتمتم بعتاب جلي لوالدته :
" وهل يصح حضوره في غير وجودي يا أماه ؟!! "
كرهت سعادات عتابه لها أمام زوجته فقالت بمكابرة :
" إنه ليس بغريب .. هذا زوجها ويرغب برؤيتها "
قبض ليث كفيه مستغفرًا ثم قال وهو يُشير برأسه نحو ليالي التي تراقبهما بتوجس :
" وماذا عن أهل بيتي ؟! "
أشارت سعادات نحوها بدورها بتهكم فيما تقول :
" ها أنا أخبرتها للتو حتى تأخذ حيطتها ولا تخرج من الغرفة "
" عودي إلى الغرفة يا ليالي من فضلك "
نظرت له وكأنه أعتقها من حبل المشنقة وعادت إلى الداخل تنفذ أمره بكل سرور بينما تمتم ليث بخفوت حاد وهو يتحرك مع أمه من أمام غرفته لينزلا إلى البهو :
" بالله عليكِ يا أمي كم مرة أخبرتك أن غالية لا تخضع لسياسة الأمر الواقع ؟! .. هل تريدين أن تتأزم الأمور بينهما أكثر ؟! "
هدرت فيه سعادات بشكل مفاجئ :
" إنه زوجها ويرغب فقط برؤيتها .. الرجل لم يكفر لتعلق له المشانق بهذا الشكل وقد تكلم معك بدل المرة الف وأوضح لك ولأختك العنيدة موقفه .. ماذا تريدون بعد ؟!! "
رفع ليث حاجبيه عجبًا من هجومها المباغت وتحيزها الشديد لعزيز رغم فعلته ومع ذلك حاول التزام الصبر للحظة الأخيرة وهو يجيب :
" حاليًا لا أريد منه إلا تخفيف الضغط الذي يمارسه على غالية حتى لا تنهار .. يكفيها هذا الحمل الذي لم يكن بالحسبان ، لما تتكلمين كأنك لا تدركين أبعاد الموقف يا امي ؟! .. ألا تخافين على غالية وتهمك مصلحتها ؟!! "
بمكابرة لا تنتهي ردت عليه سعادات :
" ومصلحتها في وجود زوجها جوارها "
ضرب ليث كفيه ببعضهما وكاد أن يتحدث لكن وصول عزيز أوقفه فالتفت له بكامل انتباهه وهو يحاول تخفيف حدة ملامحه :
" السلام عليكم "
ألقى عزيز السلام وهو يغض بصره بتهذيب فرد عليه ليث ثم سأله مضطرًا :
" كيف أحوالك يا عزيز ؟!! "
وأحوال عزيز كانت ظاهرة للأعمى لا تستحق سؤال .. !
وجه متجهم مرهق وكأنه يصارع من أجل البقاء
هالات واضحة تحكي حكاية سهاد لا ينتهي
نظرات حادة تُعلن عن مزاجه العكر الذي يسيطر عليه الفترة الأخيرة ..
أما لسانه فتفوه بالرد المعتاد :
" الحمد لله "
ثم نظر بعد ذلك نحو سعادات وقال باحترام :
" كيف حالك يا خالة ؟؟! .. أمي تستأذنكم للزيارة "
ابتسمت له سعادات ثم قالت :
" تنير في أي وقت يا ولدي "
أومأ لها عزيز بامتنان لموقفها معه ثم سأل بعد لحظات عن سبب حضوره :
" أين غالية ؟!! "
وأتبع :
" ألن تنزل هذه المرة أيضًا ؟! "
تجهم وجه ليث بعدم رضا بينما قالت سعادات ببساطة :
" اصعد لها في غرفتها يا عزيز "
رمقها ليث بذهول بينما نظر عبد العزيز نحو صديقه وكما توقع وجد عدم الرضا يسكن نظراته فتمتم بصوت خافت :
" بعد اذنك يا ليث .. هلا توصلني إلى غرفة زوجتي ؟!! "
شدد عزيز على لقب زوجتي وهو ينظر نحو الأعلى بلهفة مفضوحة فرمق ليث والدته بغضب مكبوت وهو يشعر أنه محاصر بين هذا الذي حاله لا يسر عدو لا حبيب وبين غالية التي اتخذت العناد منهجًا في التعامل .. !
صمت ليث لبعض الوقت يزن الأمر في رأسه واحترم عزيز صمته ثم أشار له ليث على مضض حتى يتبعه لأنه موقنًا أكثر من الجميع أنهم مهما فعلوا لن تتنازل غالية وتغادر غرفتها لرؤية عزيز .

_______________ 

( في الأعلى )

تركه ليث أمام الغرفة بملامح ممتعضة ثم ذهب إلى غرفته بعد أن قال بتحذير صريح :
" إياك أن تضايقها بحرف ، هذه المرة ستجدني فوق رأسك لأكتم أنفاسك .. وأخبرني برسالة قبل خروجك من غرفتها "
أومأ له عزيز ثم نظر إلى ظهره المغادر ليعود وينظر إلى باب الغرفة المغلق في وجهه ككل سُبله اليها باشتياق مكلل بالقلق من ردة فعلها على رؤيته المفاجئة .. !
سمى الله ثم فتح الباب ببطء ودخل ينظر في الأرجاء بلهفة وحذر فوقعت عيناه على جسدها المستلقي فوق الفراش وقد غلبها النعاس ..
ومضت عيناه بحنو شديد ثم اعتلت ابتسامة دافئة حزينة ثغره وتحرك نحوها يتطلع إليها كمحروم عطِش يبحث عن نقطة ماء ترويه !
اقترب منها بحذر وعيناه تلتهمها دون أي تحفظ ..
شعرها الذي اشتاق إليه تركته منسدلًا ورائها ببهاء لا يزال يسلب قلبه كالمرة الأولى
ملامحها المنمنمة مسترخية أثناء النوم وإن اعتلاها بعض الشحوب
فمها المرسوم بريشة الخالق منفرج بعض الشيء بلهاث خفيف
ترتدي منامة محتشمة بلون النبيذ الاحمر أضفت عليها لمسة أنثوية وزادتها فتنة .. !
جثى عزيز جوارها يتأمل ملامحها بعينين وامضتين بعشقها
رباه لكم اشتاقها !
اشتياقه لها يغلب خوفه عليها من القادم
يشتاق للمسة ناعمة مثلها
لضمة لصدره وتربيت حان منها على رأسه
لسكون لا يحظى به إلا حينما يضع رأسه على فخذها فتتساقط همومه تباعًا اسفل قدميها
وكأنها شعرت بأنفاسه فتحت غالية عينيها للحظات بنعاس لا يزال يلف رأسها فاختلج قلبه بين جنباته وابتسم لها بتوق شديد وهو يرتوي من رؤية عينيها حبيبتيه ..
" عزيز "
همسة غير واعية باسمه وابتسامة خفيفة فرحة بخياله ( على حسب ظنها ) جعلوا الحرائق تدب في جسده فانحنى عزيز بوجهه وهمس أمام شفتيها باشتياق يقتله في الليلة ألف ألف مرة :
" ست الحُسن "
ثم اقتطف ثغرها في قبلة طويلة جعلت وعيها يعود إليها بالتدريج فنهضت غالية ثم همست بتشوش من قربه المفاجئ :
" ماذا تفعل هنا يا عزيز ؟!! .. كيف دخلت ؟!! "
نهض ثم جلس جوارها على الفراش فابتعدت غالية مما جعله يرمقها بعتاب جلي فيما يسألها بتروي متجاهلا الرد على تساؤلاتها :
" كيف حالك يا غالية ؟!! "
ثم أتبع :
" اشتقت لكِ "
ابتلعت غالية ريقها بارتباك من هجومه العاطفي المفاجئ ولم ترد عليه ثم حاولت النهوض من فوق الفراش فأمسك كفها ومنعها قائلًا بلوم :
" هل هان عزيز لهذه الدرجة يا ست الحُسن ؟!! "
رمقته غالية بألم ثم همهمت بكبرياء جريح :
" أنا من هنت عليك من البداية "
تشبث عزيز بكفها بلهفة شديدة ثم خرجت حروفه محترقة بلوعته :
" تهون الدنيا ولا تهون الغالية .. بالله عليكِ ألا تخبرك حالتي بما أعانيه في غيابك ! "
نظرت له غالية بصمت وتكفلت عيناها بالحديث
أيلومها على تركها له بعد أن كسرها وكسر ثقتها به ؟!!
أيلومها لأنها جُرحت منه بعد أن هشم قلبها باتفاقه مع والده ؟!
" أنا اذوي بدونك يا غالية .. ألم تغفري بعد ؟! "
اسبلت اهدابها ثم همهمت بصوت خافت كسير :
" لما فعلت بي هذا يا عبد العزيز ؟!! .. أكنت واثقًا لهذه الدرجة أنني لن اكفيك ؟! "
" أنتِ تكفيني عن الدنيا بما فيها .. لما لا تفهمين ؟!! "
هدر بها عزيز وقد ضاق ذرعًا من محاولاته لشرح حقيقة موقفه
لما لا تصدقه ؟!!
لما تكذّب مشاعره بهذه الصورة وكأنه منافق حقير تعمد أن يصل لها وهو عاقد العزم على الزواج من أخرى غيرها ؟!!
كادت غالية أن تتحدث لكن عزيز استلم منها راية اللوم وقال بصوت غاضب :
" ألا يخبرك شجاري مع والدي وترك العمل معه بشيء ؟!! .. ألا تخبرك رسائلي واتصالاتي التي لا تنقطع رغم عدم ردك بشيء ؟! .. ألا تخبرك هيئتي تلك بشيء ؟!! "
دمعت عينا غالية بعجز فاتبع عزيز بحرقة :
" لقد تشاجرت مع عائلتي بأكملها من أجلك يا غالية وأنتِ لا ترضين .. وها أنا أحتمل الآن حقيقة أنكِ حملتِ عنادًا بي وتعرضين حياتك للخطر ومع ذلك احاول الوصول إليكِ بكل الطرق وأنتِ تغلقين في وجهي كل السُبل "
كادت غالية أن تتحدث مرة أخرى لكن عزيز هدر بصوت نافذ الصبر :
" هل ما بيننا هش لهذه الدرجة ؟!! .. في أول عقبة تقابل حياتنا تتركيني بمفردي وتعطيني ظهرك يا غالية ! .. تقفين مع الكل ضدي بدلًا من أن تحاربي معي لإصلاح حياتنا ! "
اقترب منها عزيز وامسك وجهها بين كفيه ثم تمتم بعتاب أمام عينيها الدامعتين :
" ألا تتساءلين عن حالي ؟!! .. ألا تقلقين بشأني ؟!! .. كيف تستطيعين النوم وأنتِ لستِ بين ذراعي ؟!! "
بكت غالية واغمضت عينيها تهرب من عتابه لها فالتقط عزيز دموعها بشفتيه وقال بخذلان :
" هان عزيز رغم انكِ لم تهوني يا غالية "
هزت رأسها تنفي ما يقوله بضعف شديد ودموعها تغطي وجهها فضمها عزيز إليه مستغلًا لحظة استسلامها النادرة وهمهم بصوت خافت :
" أنا أعترف أنني آذيتك لكن والله دون قصد وأنتِ تدركين ذلك في قرارة نفسك ومع ذلك أصدرتِ حكمك بالفراق وكأن ما بيننا لا قيمة له "
" عزيز أنا ....... "
قاطعها عزيز يرقع قلبها المهلهل بألمه بخيط أمل وردي ينسجه بحذر شديد خوفًا من تمزقه :
" لقد انتظرتك أعوامًا طويلة يا غالية كنتِ فيها بعيدة المنال ، راقبتك وأنتِ لي حلمًا مستحيلًا ظننت أنني لن اطاله أبدًا لكن كرم الله فاق كل توقعاتي وجعلني اضمك لصدري كما الآن .. شممت عطرك وفككت جدائلك واكتمل يومي بابتسامتك "
أبعدها عنه وفي عينيه نظرة لن تنساها ما حيت ثم تمتم بصوت جريح :
" حتى وإن لم تحبيني بنفس القدر ستبقين الغالية حتى يسترد الله أمانته ، حتى وأنتِ تفضلين الصراع مع الموت على حياة تمضينها معي ، حتى وإن ابتعدتِ آلاف الأميال بقلبك وكيانك .. أنتِ هنا "
أتبع حديثه بوضع كفها فوق قلبه ثم أنهى حديثه قائلاً بحرارة :
" هنا حيث سكناكِ منذ أعوام طويلة لا تدرين عنها شيئًا .. أنتِ زوجتي يا غالية وهذا ما لن يغيره مخلوق طالما في هذا الجسد نفس يتردد "
نزلت دموعها من جديد وشعرت بألمه يرتد في صدرها فيزيد حالتها سوءًا فأجلسها عزيز على الفراش ثم قال بحنو لا يخلو من الحزم :
" ليث أخبرني أنه سيصحبك إلى العاصمة للمتابعة مع طبيب شهير هناك ، وانا أخبرته أن زوجتي لن تخطو خطوة بدوني .. ما قولك ؟! "
نظرت له غالية بارتباك فمسح عزيز على وجهها بخفة شديدة فيما يقول بصوت هادئ عن ما قبل :
" إن كان حملك ابتلاء فسنواجهه سويًا وإن كان اغتناء فالله أكرم من أن ينعم علينا بنعمة ولا يتمها "
ثم ضغط على كف غالية القابع بين كفه فيما يكرر بإصرار :
" سويًا يا غالية .. اتفقنا ؟!! "
نظرت له للحظات ولم تجد بدًا من هز رأسها بالموافقة فزفر عزيز براحة ثم عاد وضم رأسها إلى صدره بحاجة لا تنتهي وهي استكانت له مؤقتًا تنعم بلذة القرب منه بعد أن اذاقها فراقه الأمرين فتحولت إلى زهرة ذابلة بعد أن فارقت أرضها .

_______________ 
( العاصمة )

" تزوجيني ... الآن "
لوهلة شعرت بالغباء
أتراها تهذي ؟!!
أم أنه تفوه بالفعل بما سمعت ؟!!
ظلت فوق مقعدها تحدق فيه وكأنه مخبول قد طار الجزء الأخير من عقله وانتهى الأمر بينما راقب سيف تعاقب الانفعالات على ملامح وجهها بهدوء يخبئ وراءه مزيج من الإثارة والخوف .. !
لا يدري كيف خرجت منه الحروف
لكنها خرجت وانتهى الأمر .
أخيرًا تكلمت صفية فخرجت حروفها همس مستنكر :
" أنت لم تقل ما سمعته ، أنت لن تفعل ذلك "
رمش سيف الدين بهدوء وبحنكة رجل اعمال برأ ساحته فقال :
" لا أفهم يا صفية سر هذا الاندهاش .. أنا أعرض عليكِ عرض ولكِ مطلق الحق في القبول أو الرفض "
هدرت صفية بشكل مفاجئ وكأن بروده صفع تيهها :
" هل تهذي ؟!! .. اولًا تقول أن هذا شرطك حتى لا ترفع قضية على أخي وتسجنه والآن تخبرني أنني مخيرة "
كاد سيف أن يتحدث لكنها سبقته واستطردت وهي تنهض من فوق مقعدها بغضب بالغ :
" ما الذي حدث لك ؟!! .. هل فقدت عقلك حتى تبتزني بهذا الشكل يا سيف ؟! .. هل تريد مني أن اقامر على حياة اخي ومستقبله ؟!! "
" أنا لا ابتزك يا صفية ، وبالطبع لكِ كامل الحق في رفض عرضي "
تمتم سيف بحديثه وملامحه لا تنم عن ما يفكر به فهمست صفية بخذلان وعينيها تدمع مصعوقة من مسار تفكيره :
" أي وحش أصبحت ؟!! .. متى تبدلت وأصبحت هكذا ؟!! "
لمحت طيف ارتباك في نظراته لكن حديثه كان له رأي مخالف فخرجت حروفه شديدة الجمود والكبر :
" لا تقلبين الطاولة يا صفية .. شقيقك هو من آذى والدي وآذاني في عملي ، والآن تستكثرين علي أن أدفعّه الثمن ! "
أشارت صفية إلى نفسها وهي تصرخ فيه بذهول :
" وأنا الثمن ! .. هل جعلت مني قربان يُقدم اليك حتى لا تقترب من عائلتي بسوء ؟!! "
أخيرًا نهض سيف من مكانه وتحرك نحوها بخطوات غاضبة وقد طار تماسكه المزعوم ادراج الرياح يهتف بدوره غير عابئًا بأصواتهم المرتفعة في مكان عمله :
" أنا أيضًا جزء من عائلتك ومسني السوء ، لما لا تساندينني كما تساندينه ؟! "
صرخت صفية بعجز ودموعها تسيل على وجنتيها دون أن تستوعب موقفه :
" لأنه أخي "
" وأنا حبيبك "
صرخ بها بجنون فانتفضت أمام عينيه بخوف لكن لجامه الذي يسيطر به على مشاعره تجاهها من سنوات قد انفلت تمامًا فوقف أمامها مكشوفًا .. مهتزًا للمرة الأولى وهو يسألها باحتراق بينما تتسول عيناه نظرة تأكيد منها بعد أن طار تماسكه المزعوم :
" أنا ما زلت حبيبك .. أليس كذلك يا صفية ؟!! "
صمتت صفية تنظر له بمرارة بينما خرجت حروف سيف الغاضبة تحمل لوعته الخفية :
" كفاكِ صمتًا .. كفاكِ اختيارًا لغيري .. كفاكِ هربًا يا صفية "
كادت أن تتحدث لكنه استلم الدفة هذه المرة فأكمل بانفلات :
" لقد أخطأت مرة .. مرة واحدة فقط واعتذرت عن هذا الخطأ آلاف المرات لكنك محيتي كل ما كان بيننا بممحاة وكأن شيئًا لم يكن ثم ذهبتِ وارتبطتِ بغيري أمام عيني "
ردت عليه صفية بحرقة :
" لقد أهنتني وأهنت عائلتي "
فهتف بدوره :
" لكنني لم أفلت يدك مثلما فعلتِ .. تمسكت بكِ حتى الرمق الاخير ، حاربت كل شيء حتى أحظى بكِ وحتى هذه اللحظة ما زلت احاول استردادك وانتِ تولينني ظهرك "
كادت صفية أن تدافع عن موقفها لكنه سحبها إليه بعنف وقال بإقرار أمام عينيها المتسعتين بصدمة من تصرفاته الفجة :
" أنتِ لا زلتِ تحبينني مثلما أحبك .. عيناكِ تفضحك وأنا لست غرًا لأصدق انكِ تجاوزتِ مشاعر عمرها يفوق الخمسة عشر عامًا بمثل هذه السهولة .. انت تحبينني يا صفية ولهذا جئتِ اليوم حتى أتراجع عن إيذاء سعد وكلك يقين أن لكِ رصيد في قلبي سيجعلني أعيد النظر في الأمر "
ارتبكت عينا صفية ثم قالت بصوت مكتوم وهي تحاول الإفلات منه بصعوبة بالغة :
" ابتعد عني يا سيف ، هل جننت ؟!! "
" أجل جننت .. جننت من محاولاتي معك ومن رأسك الصلد "
ما زالت تحاول الإفلات منه لكنه متشبث بها بجنون مطبق ولسانه لا يتوقف عن الهذر بمشاعره تجاهها :
" جننت بسببك وبسبب عنادك .. تحملت رؤية خاتم رجل آخر في إصبعك ، تحملت ابتسامتك له ونظرتك له لأنني كنت موقن أنكِ تعاقبينني لا أكثر "
" آدم لم يكن عقاب "
همست بها صفية بإنكار فهدر سيف بغيرة عمياء :
" لا تنطقي اسمه "
لم تجد صفية أمامها إلا أن تلعب على عواطفه فهمست ببكاء وهي تحاول الابتعاد عنه :
" اتركني يا سيف .. ماذا إذا دخل أحدهم الآن ورآني في هذا الموقف ؟!! "
" من سيقترب منكِ سأنسفه من على وجه الدنيا "
غمغم بها سيف وهو لا يزال يأسرها بين ذراعيه ثم همس بصوت خافت مُلح :
" تزوجي بي يا صفية وأعدك أن لا اقترب من سعد "
هزت صفية رأسها رفضًا وعيناها تدمع بعجز فتركها سيف بشكل مفاجئ مما جعلها تترنح ثم قال بنبرة وحشية أرسلت الرعب إلى أطرافها :
" إذًا لا تحدثينني عنه من جديد "
جف حلقها ثم سألته بفزع :
" ماذا ستفعل به ؟!! "
فتح سيف ذراعيه أمامها ثم قال بصراحة تامة :
" سآخذ بثأري وثأر أبي "
" لا تؤذه يا سيف .. أمي ستموت إذا أصابه شيء "
همست بها صفية بتوسل كرهه فأولاها ظهره ثم قال بخشونة وهو يمنع نفسه بشق الأنفس من جذبها بين ذراعيه مرة أخرى :
" ارحلي يا صفية "
نظرت له بعجز شديد قابله سيف بجمود أشد فصرخت صفية بانهيار وهي تقذفه بحقيبتها بكل غل :
" تبًا لك .. سأتزوج بك "

_________________ 

" انظروا انظروا من أتى أخيرًا ليُدلي باعترافاته ! "
يهمس بها بكر بسخرية مسموعة في اذن ابنته وهو يشير نحو آدم الجالس أمامه يرمقه بتهكم وحنق بينما دخلت جزاء تحمل كوبين من الشاي وبعض قطع الكعك ووضعتهم أمامهم فيما تسأل آدم بعفوية دون أن تنظر نحوه :
" أي ريح ألقتك علينا اليوم ؟!! "
لم يستطع بكر كتم ضحكته بينما اتسعت عينا آدم من فظاظتها التي تزداد كلما مر بها العمر ثم قال من بين أسنانه :
" هل ستمنعينني من زيارة بيت جدي أم ماذا ؟!! "
نظرت له جزاء دون أن تفهم ما ضايقه منها ثم قالت بصوت مستفز :
" هل جئت تبحث عن أحد تتشاجر معه ؟!! "
نظر آدم نحو بكر ثم قال بتهكم وهو يتناول كوب الشاي من فوق الطاولة :
" اخبر زوجتك أن ترحمنا قليلًا من لباقتها يا بكر "
سحبت جزاء الكوب من يده فنظر لها مبهوتًا بينما قالت بسخرية من بين اسنانها وهي تضع الكوب من جديد على الطاولة بينما يراقبهما بكر بتسلي :
" حسنًا لنجعلها لباقة وحسن ضيافة "
كاد آدم أن يرد عليها بما تستحق لكن بكر تدخل قائلًا بمشاكسة :
" كفى يا زوزو .. الرجل بائس دون شيء ، انظري إلى منظره "
وفي نفس اللحظة نظر ثلاثتهم إلى هيئة آدم بتقييم فضحك بكر حينما تساءل آدم بجدية وهو يتفحص ملابسه :
" ماذا بها هيئتي ؟!! "
مطت جزاء شفتيها بامتعاض من مبالغته في الاهتمام بمظهره بينما تجاهل بكر الرد على سؤاله ووجه حديثه إلى طفلته الصغيرة التي لا تفهم شيء بنبرة ذات مغزى :
" والآن ستذهب لولي مع زوزو ليلعبن مع الأسد ريثما انهي حديثي مع عمها البائس .. اتفقنا ؟!! "
أنهى حديثه بقبلة صاخبة لوجنة طفلته التي ضحكت فأنارت دنياه وسرقت قلبه
أخذتها منه جزاء وقد فهمت فحوى حديثه مع ابنتهم فيما تكرر بسخرية جلية :
" هيا يا حبيبتي .. هيا لنلعب مع الأسد لأن بابا فقد الجزء المتبقي من عقله "
" لقد سمعتك "
هتف بها بكر في اعقابها فتجاهلته جزاء وغادرت وهي تلاعب طفلتها ثم أغلقت الباب ورائها
وفور مغادرتها التفت بكر نحو آدم ثم قال :
" اشجيني "
للحظة ارتبك ادم ولم يدري من أين يبدأ فنظر ارضًا يفكر بمدخل مناسب
رمقه بكر بصمت منتظرًا إياه أن ينتهي من حساب عدد مربعات السجادة البنية وفصلها عن الحمراء وحين أطال ادم صمته هتف بكر فيه بشكل أفزعه :
" انطق "
رمقه آدم بغضب ثم نهض من مكانه ودار حول نفسه للحظات قبل أن يقول بوجه عابس :
" إنها طالبة "
رفع بكر حاجبه وقد تيقن ان صديقه وقع في الفخ فظل على صمته منتظرًا التكملة التي لم تتأخر كثيرًا :
" وصغيرة "
أخفى ابتسامة شامتة تحارب للظهور على شفتيه بينما اكمل آدم بضيق :
" وتخاف مني معظم الوقت "
ثم نظر إلى بكر وهتف دون حذر :
" حتى أنها حظرتني من قائمة أصدقائها "
وهنا لم يتمالك بكر نفسه فخرجت همسته المصدومة :
" ماذا ؟!! "
وهنا أيضًا أدرك آدم أنه أوقع نفسه في فخ تنمر لن يخرج منه لعشرين سنة قادمة فشتم نفسه سرًا بينما تعالت ضحكة بكر حتى دمعت عيناه وهو يكرر بذهول :
" حظرتك ! "
رماه آدم بزجاجة المياه وهتف بغضب حقيقي حين طال ضحك الآخر :
" احترم نفسك وإلا سأغادر "
تمالك بكر نفسه بمعجزة ومسح وجهه يهدأ من سيل الضحكات التي تود الخروج للعلن ثم سأله بصوت مكتوم وعينين غائرتين من كثرة الضحك :
" وماذا أيضًا ؟!! "
نظر له ادم بقرف ثم تنهد محاولًا تنظيم أفكاره ثم قال بعد لحظات :
" وأخت رجل بيني وبينه تفاهم واحترام "
أومأ له بكر دون اهتمام بهذه النقطة وكل تركيزه على شيء آخر ثم سأل آدم :
" أنت قلت أنها تخافك .. ثم ما الذي جعلها تحظرك ؟!! "
ومرة أخرى ضحك بكر في نهاية سؤاله فتحرك ادم ناويًا المغادرة فأمسك به بكر وهو يعتذر منه بوجه أحمر فيما يقول :
" حسنًا .. حسنًا لن أذكر الأمر مرة أخرى حتى تنتهي ، والآن أخبرني لما تخاف منك ؟!! "
أبعده ادم بعنف ثم عاد وجلس على الأريكة مرة أخرى بينما جلس بكر أمامه ينتظره بتهذيب ليقول آدم بعد لحظات بضيق موجه إلى نفسه وهو يتناول كوب الشاي من جديد :
" لأنني شككت في أخلاقها بسبب موقف ملفق "
سحب بكر الكوب من يده قبل أن يقربه آدم من فمه فيما يقول بصوت ساخط :
" ماذا فعلت يا ابن الغاليين ؟!!! "
وجمت ملامح آدم وهو يتذكر ذلك الموقف البغيض على نفسه ثم روى لبكر الأمر باختصار فهمس بكر بصوت مكتوم :
" وبخت الفتاة علنًا وهددتها بفضيحة ؟!! .. آه يا ابن الـ....ـغاليين "
زفر آدم بضيق بينما قال بكر بتوبيخ ساخر :
" وتستكثر على نفسك الحظر ؟!! .. وحق الله أي فتاة أخرى مكانها لكانت شقت رأسك العفن بأول حجر قابلها "
  ثم عاد وسأله :
" ومن يكون أخيها الذي تحدثت عنه ؟!! "
" بِشر الشعراوي "
قطب بكر يحاول تذكرها ثم انفرجت ملامحه بالتدريج وقال بعد لحظات بتفكه :
" هل نتحدث عن الدمية نصف الأجنبية ؟!! "
نظر له آدم بشرر فابتلع بكر لسانه ورفع كفيه باستسلام فيما يقول ساخرًا :
" اهدأ يا وحش "
من جديد أمسك آدم بكوب الشاي وصمت قليلًا ثم نظر إلى بكر يسأله بعجز :
" أخبرني كيف اصحح الموقف ؟!! "
ومرة أخرى سحب بكر الكوب من يده وهو يسأله بتحفز :
" ألم تعتذر للفتاة بعد ؟!! "
تأفف آدم ثم قال :
" اعتذرت منها لكنها ...... "
أكمل بكر نيابة عنه :
" لم تمرر الأمر مرور الكرام "
أومأ بعبوس ثم قال بعد لحظات بسيطة :
" أنا أريد إصلاح الأمر يا بكر "
" لماذا ؟!! "
نظر له آدم بعدم فهم فبادله بكر التحديق قليلًا ثم قال بمكر :
" هل تعجبك ملامحي ؟!! .. انطق .. لما يهمك إصلاح الأمور معها رغم أنها لم تلين بعد اعتذارك ؟!! .. لقد اعتذرت وانتهى الأمر "
ومضت عينا آدم بشيء غامض كإجابته الشاردة :
" لأنني استيقظت "
" صباحك يشبهك يا غالي .. هل أجلب لك الإفطار ؟!! "
غمغم بها بكر ساخرًا فرمقه آدم بطرف عينه وتجنب أن يقص عليه حلمه السابق حتى لا يتندر عليه هذا المتنمر الذي ابتلي به .. !
وحين أدرك بكر أنه لن يصل إلى شيء مع هذا الأحمق فنهض قائلًا بتآمر :
" حسنًا .. لقد حللنا المعطيات بما يكفي والآن لننتقل للخطوة التالية "
نظر له آدم بتركيز فغمغم بكر ببساطة :
" أول وأهم شيء عليك أن تمحي الخوف من بينكما بأي ثمن "
أومأ له آدم بموافقة ثم أمسك بكوب الشاي ليرتشف منه لكن بكر وكأنه أقسم هو وزوجته أن لا يتذوق منه ولو رشفة سحبه من بين يديه وهو يقول مشددًا على كل حرف :
" وعليك أن تتخلى عن هيئة رئيس المباحث التي تصدرها لخلق الله في العمل .. من تواضع لله رفعه يا سيدنا "
عبس آدم و قال بصوت غاضب يدفع التهمة عن نفسه :
" أنا لا أتكبر على أحد "
" لكنك عابس على الدوام وتلقي الأوامر هنا وهناك طوال الوقت وكأنك صاحب ملاهي المولد النبوي "
كاد آدم أن يتحدث لكن بكر سبقه هاتفًا بتحذير :
" لا تكذب لقد رأيتك في العمل أكثر مرة وبالأمانة أنت شخصية لا تُطاق "
اتسعت عينا آدم بعدم تصديق ثم قال متهكمًا :
" وهل عليّ أن أرقص لهم عشر بلدي في المستشفى حتى أنال الإعجاب ؟!! .. أنا طبيب "
التوت شفتي بكر ثم رد عليه رده المعتاد :
" حسرة على الطب حين يمارسه أمثالك "
" توقف يا بكر .. أنا جاد ، أنا لست سيئًا لهذه الدرجة "
اعتلى المكر ملامح صاحبه ثم قال بتآمر :
" حسنًا يا طبيب .. أنت لديك مهلة عدة أشهر قبل نهاية العام الحالي حتى تستطيع فيهم كسب قلب الفتاة "
هتف آدم وكأنه قد تذكر شيئًا مهمًا :
" إنها تغار يا بكر "
رفع بكر حاجبًا واحدًا ثم سأله بغباء :
" منك ؟!! "
انطفئ الحماس من على وجه آدم ثم صحح له ببلادة :
" لا ، عليّ "
نظر له منتظرًا التوضيح فأخبره آدم بانقلابها وقت رأته ينظر إلى صفية فقال بكر بعقلانية نادرة :
" لا تتأمل كثيرًا .. قد تكون ظنت بك السوء واعتقدت أنك تكيد بها لصفية لذلك غضبت "
نظر له آدم للحظات ثم سأله بعجز واضح :
" إذًا ماذا أفعل ؟!! "
قال بكر بابتسامة متلاعبة وهو يجلس على المقعد من جديد :
" كما أخبرتك .. كن لها صديقًا قبل أي شيء حتى تزول الحساسية التي بينكما بسبب الموقف السابق وبعد ذلك سيأتي كل شيء بالتدريج "
" هل هذا رأيك ؟!! "
أومأ له بكر بتأكيد وثقة فهز آدم رأسه ثم جلس وأمسك بكوب الشاي الذي برد وما أن وضعه على فمه حتى غمغم بمكر بمشاكسة ضاحكة :
" والآن أخبرني بما شعرت حين جاءك اشعار بأنها حظرتك "
وكان الرد على سؤاله كوب شاي قُذف في وجهه فأغرقه وأغرق ملابسه بينما غرق هو بالضحك وهو يراقب انصراف صاحبه بسخط وجنون .

________________ 

تجلس في الغرفة التي عادت إليها من جديد ، فقد تأجل أمر انتقالها قليلًا تأثرًا بالأحداث الأخيرة أو بالأحرى كارثة آل الجديدة التي قلب بها المنزل رأسًا على عقب .. !
متى ستنتهي بلاياه ؟!!
ومن أين نبتت له هذه الطفلة وأين كان يتركها حين كان يبات لياليه هنا ؟!!
زفرت فضة بضيق وهي حتى هذه اللحظة لا تستطيع أن تنسى هيئته وهو جاثيًا أرضًا يبكي بانهيار بينما يضم طفلته إليه وكأن العالم خُسف به .. !
فقد نُزعت واجهة الشيطان عنه بأقسى شكل ممكن وانسلخت عنه بالدماء وبقي هو فانيًا يبكي خسارته المحتومة بل ويحملها بين أصابعه ناظرًا حوله بذهول وكأن القدر عرى وهنه بغتة والقاه على الطرقات يتسول الغوث .
هل شمتت به ؟!!
لا تظن ، ولا تظن أن هناك من يحمل قلبًا بين جنباته فيشمت في رؤية أب مفجوع على طفلته بهذا الشكل .. !
عادت وقرأت رسالته مرة أخرى بعينين غائمتين بالأسى لأجل طفلة تحارب في هذه اللحظة لتنجو بحياتها ..
( سيلفر ، لا تطلبي من الله أن يعاقبني على ما فعلت معك فيها .. I have no one but her )
لقد أقر الشيطان بإنسانيته المفقودة وتآكلت مخالب الضاري الذي اغتر بقوته فنهش نفسه بكل رعونة .. !
قطبت فضة للحظات وهي تتذكر هذيانه بأنه هو من قتلها
ترى ماذا كان يقصد بقوله ؟!!
أجفلت على صوت هاتفها الذي رن برقم شقيقها فاستقبلت المكالمة ليأتيها سؤاله المهتم :
" كيف الحال يا فضة ؟!! .. هل استقريتِ في منزلك الجديد ؟!! "
" لا ، لم أنتقل بعد "
قطب ليث بتعجب ظهر في سؤاله :
" لماذا ؟!! .. لقد كنتِ تسابقين الزمن للانتقال ، ماذا حدث ؟! "
تنهدت فضة ثم قالت باختصار شديد :
" لقد تعرضت ابنة أخو بِشر إلى وعكة صحية شديدة وتم نقلها إلى المستشفى لذلك أجلت انتقالي للغد أو بعد الغد على الأكثر "
وكما توقعت جاءها السؤال سريعًا :
" أي ابنة ؟!! .. ومتى تزوج هذا ؟!! "
زفرت فضة ثم قالت بخفوت وهي تتمدد على الفراش :
" لا أعلم ، على الأغلب تزوج خارج البلاد قبل عودته "
صمت ليث قليلًا وكأنه يقيم الأمر في رأسه ثم سألها بعد لحظات بشك :
" هل رأى أحدكم زوجته من قبل ؟!! "
غمغمت فضة ببلادة :
" ولا حتى ابنته ، هذه المرة الأولى التي نراها فيها "
ثم عادت وسألته :
" لكن لما تسأل عن زوجته ؟!! "
رد عليها ليث بغموض غريب :
" لا شيء .. سألت دون سبب "
كادت فضة أن تستفسر منه أكثر لكنه قطع الطريق عليها فسألها باهتمام :
" أخبريني متى ستقدمين أوراقك للعودة إلى الجامعة ؟!! "
تنهدت فضة ثم قالت بحيرة بعد وقت بسيط :
" لا أعلم ، لتنتهي فقط امتحانات نصف العام وبعدها نرى "
وافقها ليث برضا ثم قال بعدها :
" سأتصل ببِشر لأطمئن على حاله .. هل ترغبين بشيء ؟! "
" متى ستأتي ؟!! "
ألقت سؤالها باشتياق حقيقي فأجابها ليث بدفء :
" يومين على الأكثر وأكون أمامك أنا وغالية "
ابتسمت فضة بسكون ثم ودعته ودفنت رأسها في وسادتها تبحث عن نوم هي أدرى الناس باستحالة قربه
أفكارها تغزوها بلا رحمة وعقلها يستعيد ومضات سابقة وكأنه يتحرر بطريقته من ذكريات تنهشه بلا رادع !
قتلها لأصيل ..
خذلان والدتها لها
لحظات تهريبها من الوادي في منتصف الليل وكأنها خاطئة
لياليها الأولى في هذا المنزل وأشباحها التي اقتاتت عليها لوقت لا بأس به
هروبها الليلي بدراجة بِشر
وأخيرًا ..
تهجم آل الأخير عليها
وللعجب لم يضربها الخاطر الأخير بنفس قوة الخواطر السابقة .. !
لا تعلم أهي بلادة منها أم لأن هجومه كان صفعة إفاقة لها وقد أتت بنتيجتها المرجوة ؟!!
وربما لأنها فقدت ليلتها وعيها واباحت له السبيل حتى يمضي في ما بدأه لكن هناك ما أوقفه بل وحتى قام بنقلها إلى المستشفى بنفسه كما أخبرتها فداء .. !
شعرت فضة بالتشوش وكعادتها ومثل الجميع لم تفهم ما كان يخطط له هذا المختل الذي سقط على حياتها ثم ترك فيها أثرًا مُتمثلًا في ( صفعة إفاقة ) .

____________________

( المستشفى )

يجلسان على مقعدين متقابلين وبينهما مسافة بسيطة لمن يرى لكنها أميال طويلة لمن يدرك حقيقة الوضع بينهما
كلاهما صامت صمت القبور لكن ارواحهما صاخبة تصرخ بحديث لا الوقت ولا المكان يناسبانه !
آل عيناه معلقة على بوابة العناية المركزة التي نُقلت إليها طفلته ولا يزال يعاني ويلات ما مر به الساعات الماضية
روحه معلقة باستقرار حالتها فإما ستُرد إليه بعودتها أو ستغادره للأبد بفقدها .. !
رغم أن الطبيب طمأنه أن حالتها ليست بمثل هذا السوء لأن الإصابة لم تتطرق لمكان حيوي إلا أنه لا يملك سوى القلق .
أما بِشر فيجلس أمامه بوجه خالي من اي تعبير كعادته في الفترة الأخيرة يراقب تتابع الانفعالات على وجه أخيه بصمت ونظرات جافة لا تنم عن شيء ..
تنتابه الشفقة من لحظة إلى أخرى ثم يعود الجليد يغلف قلبه تجاهه مذكرًا إياه بأنه يسعى لإيذائه !
تصادمت نظراتهم للحظة وقرأ آل ضيق بِشر فقال بصوت جاف :
" You can leave "
لم يرد عليه بِشر على الفور لكنه قال بعد لحظات بسيطة بصوت خشن :
" أعلم "
لكنه ببساطة شديدة لن يفعل .. !
ولا يبحث عن سبب بقاؤه .. فهو هنا وكفى
من جديد تمتم آل بانفعال بدأ يخرج للعلن :
" أقول لك غادر .. just leave man "
لم يعيره بِشر أي اهتمام وظل على جلسته الصامتة فزفر آل  محاولًا للمرة الأولى التحكم في ثورة غضبه ومرت عليهم الدقائق خانقة ، تستنزف طاقة احتمالهما إلى أن وصل أحد العاملين في مطعم بِشر يحمل طعامًا مُعلبًا فنظر له بِشر متسائلاً عن سبب حضوره فقال الرجل موضحًا :
" السيدة زوجتك اتصلت وطلبت مني أن أوصل لكما تلك الوجبات يا بك "
أومأ له بِشر وشكره بهدوء فحياه الرجل ثم نظر نحو آل وقال بمواساة :
" بإذن الله ستطمئن على ابنتك يا بك وسيقر الله عينك بها "
رفع آل عيناه متفاجئًا من دعاء الرجل له وهو الذي لا يعرفه من الأساس ودون أن يستوعب أيضًا الشق الاخير من جملته !
أومأ له آل ممتنًا لدعائه بصمت ثم غادر الرجل فنظر آل نحو بِشر وسأله بصوت مكتوم :
" ماذا تعني سيقر عينك بها ؟!! "
وضع بِشر الطعام على المقعد المجاور له ثم قال بنبرة جافة :
" أن يقر الله عينك تعني أن يُدمع عيناك من الفرح بأن يستجيب لك بعد أن رجوته "
كان آل ينظر له وكأنه طفل يُلقن ابجديات التعامل للمرة الأولى ثم خرج سؤاله بعد لحظات بصوت مهتز :
" هل تظن أنه سيفعل ؟!! "
فهم بِشر مقصده واستوعب ما يدور في خلده في هذه اللحظة فرد عليه ببعض اللين :
" ادعو لها و دع البقية على ربك "
رمقه آل للحظات وقد مر طيف امتنان في عينيه ثم مد له بِشر حاوية الطعام التي تخصه بصمت فنظر لها آل لوقت لا بأس به ..
فكم من مرة عرضوا عليه طعامهم ورفض
وكم من مرة رغبوا بمشاركته و أبى
وكم من مرة دعوه للبقاء بينهم وتمرد !
تمسّك بموقفه منهم وأولى كل محاولاتهم ظهره مقنعًا نفسه أنه لا ينتمي لهم ..
فهم شجرة متلفتة الأغصان حول بعضها وهو غصن شيطاني منبوذ لا يُستجدى منه ثمار ولا ظل !
حين طال صمته اعتلى الجمود نظرات بِشر وكاد أن يسحب يده لكن ( علي ) تشبث بيده يوقفه في اللحظة الأخيرة ثم امسك بالحاوية من الاتجاه الآخر فبقيت معلقة بينهما كلًا منهما يمسك بها من اتجاه
وهنا اختلج قلب بِشر واهتزت نظرته الجامدة ثم تشققت جدران قسوته المستحدثة
وهنا أيضًا توارى المارد الأزرق الناقم بجهل على من لا يستحق نقمته !
كانت المرة الأولى التي يتلامسان فيها وإن كان بشكل غير مباشر لكنها كانت لحظة فارقة ..
تيار خفي انتقل من قلب يضخ الرحمة مع دماءه وتلقى صداه في قلب آخر جمدته السنون والتجارب القاسية !
أعلن الذئب الشارد انتمائه
ووجد التائه ضالته
والصابر نال بصيص أمل جزاء صبره
بتشبث طفيف بمعصم أخيه نال علي غفران بِشر ..
وسقط عن كاهل بِشر عقدة أعوام طويلة 
وانتهت حقبة قاسية لتُعلن بداية أخرى تحمل بين طياتها الكثير بنظرات صامتة بين أخوين كانت أبلغ من أي حديث .

ولما تلاقينا .. الجزء الثالث من سلسلة قلوب تحت المجهر حيث تعيش القصص. اكتشف الآن