1\ شكرا لحبّكِ كان أجمل ما حصل!

50 4 13
                                    

جلس أخيرا أمام الطاولة الزرقاء وهو يشاور نفسه أن الكتابة في هذا المقهى لهي فكرة سديدة بعد بحث مضنٍ عن مكان يلائمه ، كما أن المقهى يبدو جديدا وذا أثاث غريب .. طاولاته ملوّنة والنوافذ العالية التي تطلّ على البحر الغارق تتخفّى خلف ستائر بيضاء تراقصها رياح الصيف المنعشة ، على أن الزبائن لم يقدُموا بعد إلا أن الموسيقى المنبعثة في هذا الصباح الباكر من الداخل جعلت الجوّ المحيط به مستساغا للكتابة والحياة ..
أمسك القلم لأن الضجيج بداخله لم يكن ليهدأ إلا بصرخة قلمه لكن الصوت الأنثويّ الذي صاحب الموسيقى فجأة جعله ينتبه .. منذ متى لم يسمع صوتا بهذه الرّقة ، هل كانت الخمس سنوات من الألم والفراق والموت البطيئ كفيلة بأن تُنسيه كلّ شيء جميل .. إنها تغنّي بلغة لا يفهمها .. هل هي أغنية مسجّلة! لكن الصوت يقترب ويبتعد ويعلو وينخفض كأن التي تغنّي ترقص أيضًا!!

تلفّت ناحية الصوت الآسر يبحث عن صاحبته لكنه سرعان ما عاد يركّز أنظاره فوق دفتره البنيّ الكئيب مثله ، متجاهلا الصوت المتواصل في جماله ..المتفاني في رقّته ، وبدأ يكتب قصة السيناريو المطلوبة منه بعد شهر من المماطلة والتسويف ..

تذكّر البارحة وهو يمشي بعد العشاء ساهما في الطريق ، رأى زوجين خاصما الكره وتواعدا على الحب هذه الليلة ، يتسابقان على الرّصيف و ضحكاتهما جلجلت روح الرصيف ، لقد بثت ضحكاتهما فيه نصوصا كثيرة ، كانا يشبهان القصائد الجذلة لكنّه لا يتقن نظمها فأخذ طريقا رحبا إلى النثر ، حيث لا تظلم الكتابة هناك أبدا ..
لقد شعر بالوحدة لوهلة والشوق لأحدهنّ لكن مرّ وقت طويل على وجودها وحضورها الطاغي .. فتاة البحر .. وقد ألجأ الأمر إلى أنه مجرد ذكرى عابرة وبعض من الحسد لرؤية الحبيبين السعيدين..

بعد ساعة متواصلة من الكتابة وضع القلم على سطح الطاولة وهو يشعر بالعطش فلم يطلب أي شيء عندما دلف ، وزّع نظراته في أرجاء المقهى فانتبه للزبائن الذين بدؤوا بالفعل بالتوافد ونادلان يعملان على تلبية طلباتهم لكنه بدلا من مناداتهما وقف ينفض عنه التشنجات التي أصابته من الجلوس الطويل ومشى وهو يرتّب لباسه الرياضيّ الأسود ناحية ذلك الصوت ولا يدري لماذا إلا أنه واصل طريقه ليتفاجأ بمكان آخر لم يتوقع أن يجده .. ثلاثة رفوف بيضاء مصفوفة فيها كتب كثيرة وأريكة حمراء على الجانب ونافذة عالية أخرى تطلّ على البحر !
ليس يدري ماهذا الشعور لكنه للحظة فقط ظنّ أنه ابتسم ابتسامة صادقة لشعوره بتفاؤل غريب وهو الإنسان المنكبّ على حزنه.. المسؤول عن خساراته .. عاد بسرعة لملامحه التي لا تحكي شيئا وهو يواصل طريقه نحو هذه المكتبة العجيبة وبدأ يقرأ العناوين ويتصفّح صفحات من هذا الكتاب ويقرأ مقدّمة من كتاب آخر إلى أن وصل لإهداءٍ في ديوان شعر يقول " إليكِ أنتِ شكرا لحبّكِ كان أجمل ما حصل " ضحك باستخفاف وحدّث نفسه قائلا : أرى أن الجميع أصبح يقدّس الحب فجأة .. ثم أعاده مكانه بهدوء لكن الكتاب أكمل طريقه من الجهة الأخرى بشكل مفاجئ أفزعه ، أنزل رأسه قليلا لكي يرى إن كان شخص آخر بالفعل يقف من الجهة الأخرى لكنه اصطدم بعينين تنظران بنفس طريقته عبر الفتحة الواسعة ، عينان عسليّتان تنظران بقوّة تريدان معرفة صاحب التعليق المسيء لكاتبها المفضل .. استقام بسرعة ينوي العودة لمكانه والعكوف على الكتابة لوقت أطول لكنه توقّف جرّاء الصوت الرخيم الذي أوقفه دون أن يستدير إليه : هل تحتاج كتابا ؟
أجابها وهو يستأنف مشيته المتأخرة : لا شكرا ..
لكنها لم تنوي تركه يرحل بهذه السهولة لذلك سألت مجددا : هل أصبح الجميع يقدّس الحب في رأيك؟
لقد سمعته إذن ، أدار رأسه ناظرا إلى هذه الغريبة قائلا : الأغبياء منهم فقط ..
إنها جميلة جدا وتعانق بيدها الكتاب الذي يحمل الإهداء المبتذل في نظره وتحدّق بعينيه دون رمش كثير وتبتسم ابتسامة آسرة؟
- أظنّك عانيت منه تجربة سيئة .
- لا تظنّي بشأن من لا تعرفينه ، ستكون ظنونك خاطئة ..
ثم رحل ولم ينتظر إجابتها ولم تجبهُ بكل الأحوال ..
عاد أدراجه وقد طلب من النادل كوب قهوة وقارورة ماء صغيرة وجلس على طاولته الزرقاء يحاول متابعة الكتابة ..
عندما وضع النادل طلبه استوقفه قائلا : هل المكتبة تلك تابعة للمقهى أم لا يسمح بدخولها؟
ابتسم النادل مجيبا : طبعا يمكنك الدخول متى ما شئت ، إنها ميزة مقهانا ..

حقولُ سْمِيرَالْدُوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن