6/ من أجلِنا

8 2 0
                                    

خرج من المكتب وقد ترك فوق الطاولة أوراق السيناريو التي عكف عليها أياما كثيرة .. يبدو أن وقته قد ضاع سدًى وهو يتوقع بعد أن رأته رفضها للعمل .. ساق بسيارته البيضاء الفاخرة .. الهدية الوحيدة التي بقيت من أملاك أمه الراحلة .. متوجّها إلى المقهى ..
دلف في هذه الظهيرة وقد خلا المحل قليلا من الناس .. كان سيجلس لكنه سمع صوتها المنساب من المكتبة .. صوتُها يشبه تهويدةً مذهلة لشخصٍ متعب سمعها قبل أن ينام ..  اقترب عند حافة الباب وبقي صافناً في ظهرها وهي ترتّب الكتب وتغنّي..
.. استدارت فجأة لتلمحه فابتسمت بخفوت وقد توقفت عن الغناء قائلة:
- أنيس! منذ متى وأنت هنا!
- أتيت الآن فقط!
- مرحبا بك .. اجلس .. هل كل شيء على ما يُرام؟ تبدو مستاءً!
جلس وهو يقول بنبرة لا تظهر ما يخفيه : لأول مرة منذ مدة .. أحببت ما أفعله.. لكن خاب سعيي فيه!
جلست على الطاولة البيضاء تقابله وهي تسأل باهتمام: ألم يُقبل عملك! قلت أنك تعمل رفقة صديق!
- كنت سألتقيه اليوم لأسلّمه العمل .. لكنني لم أفكر أن شام ستكون المنتجة! أنا بالفعل أعرف عملها لكنني لم أتوقع أن زيد يعرفها أيضا!
كانت تنصت له باهتمام وباستغراب في الآن ذاته.. إنه يحدّثها عما حدث له كأنهما صديقان منذ زمن .. وقد تذكرت أثناء حديثه أن شام أخبرتها عن عملها قبل أيام ..
- أراهن أنها تفاجأت برؤيتك!
- حتى أنها انسحبت فور رؤيتي ..
- هل تظن أنها ستلغي المشروع!..
- أنا لا أعلم.. تركتهما ووجدْتُني آتي إليكِ!
ابتسمت زاد قائلة بلطف: أتمنى ألا تفعل شام ما يضرّ مصلحتكم جميعا!
ثم أضافت بسرعة بعد أن لملمت شجاعتها لتسأله: هل الكتابة بالنسبة لك هي هواية أم عمل .. هل تكتب لأنك تحب ذلك أم تحتم عليك الأمر!
ابتسم أنيس لكلامها قائلا بحسرة بدت ظاهرة في نبرته: كنتُ أكتب لأنني أحب ذلك .. وبعد موت أمي توقّفت عن ذلك لأنها كانت تكره كوني أكتب .. لكنني عدت هذه المرة فقط لإصرار صديقي الوحيد .. أبي تولّى العمل في شركة أمي وأنا أعيش معه فقط..
- حزينة لفقدها!..
ابتسم وهو يقول :
-أنتِ لا يليق بكِ الحزن..
ثم أضاف مغيّرا الموضوع : هل تعيدين ترتيب الكتب .. أرى أن جلّها على الأرض!
مسحت على جبهتها عرقًا وهميّا وهي تقول : كنت أظنّ أنني قادرة على إعادتها بمفردي لكن ربما أحتاج مساعدتك قليلا!
ابتسم أنيس بلطف وهو يقول : سيكون ممتعا ترتيب الكتب معكِ!
وقف كلاهما عائدين بالقرب من الرف..
- هل نضعُها فقط أم لها ترتيب معيّن؟
- في هذه الجهة سنضع الروايات العربية أما في الرف الآخر فلنتركه للروايات المترجمة والكتب الأخرى ..
- حسنا أنت ابقي هنا وأنا سأرتب الكتب المترجمة ..
كان سيبتعد لكنه سألها قبل ذلك:
- زاد ..ماذا عنكِ هل أنتِ بخير!
توقفت زاد عن قراءة التعريف بالكتاب الذي كانت ستضعه.. ونظرت إليه باستغراب .. وشعور يبعثُ على البكاء خالَجها لوهلة..
- طبعًا أنا بخير لم سألتَ!
- لأنني لم أرَ ضحكتكِ اليوم!
ضحكت بخفة وتوتّر وهي تقول: هل كنتُ أضحك كثيرا!
- كنتِ سعيدة لدرجة أنها انتقلت إليّ دون أن أشعر ..
وضعت الكتاب على الرف وانخفضت لتحمل كتبا كثيرة مرةً واحدة وهي تقول : سعيدة لأنها انتقلت إليك..
استدارت كي لا يرى دموعها ..
ابتعدت يساراً نحو المكان الشاغر في الرف لكنها تعثّرت ببعض الكتب المتروكة على الأرض .. سقطت الكتب التي كانت تحمِلها .. لكنّها لم تسقط .. لأن يدَه أحاطت بخصرها.. مرت لحظات شرد في رائحة الورود المنبعثة من شعرها المنسدل على ظهرها..ثم نزع يده برفق وهو يبتعد قائلا: انتبهي زاد..
استدارت إليه لينظر نحو عينيها الدامعتين .. قالت بخجل : لحظة وسأعود .. كانت ستتخطّاه لكنه أمسك بمرفقها قائلا بحزم : لن تذهبي حتى تقولي مالّذي يكدّر صفو ملامحكِ .. سمحت لكِ بأن تساعديني لذلك اسمحي لي بردّ الجميل..
نظرت نحو عينيهِ لحظات وهي تفكّر أنه قبل دقائق أتى كشخصٍ مهزوم والآن هو يريد مساعدتها..
شخص منهكٌ مثلك سيفهمكَ حتى وإن لم تقل .. لأنّ ملامحك شابهَت ملامحه كثيراً .. حتى وإن لم تمرّا بنفس الألم .. لكنّها نفس الملامح.. نفس التنهيدات المتعبة..
- يمرّ أبي يوعكة صحية مفاجئة وهو ليس معنا..
أنزل يده إلى يدها وابتعد بها عن المكان الضيق بين الرفوف نحو النافذة الواسعة.. قائلا: هل هو بخير ؟
- لست أدري .. سيعود الاسبوع القادم..

حقولُ سْمِيرَالْدُوحيث تعيش القصص. اكتشف الآن