الفصل الخامس

41 4 12
                                    

كان الجو قائظ الحرارة، الشمس البغيضة تبعث لهيبها دون رأفة، تصهر الجلود وتجفف الحلق، تغرق كل من يسير تحتها بأمطار العرق المالحة .. لو أن بيضة سقطت على الأرض لشُويت وصارت صالحة للأكل.. كان محمود واثقًا من هذا، لكن ما إن التقت عيناهما حتى تبدد ذلك اللهيب، تجدد جلده، ارتوى حلقه، جفت ملابسه، وأحس ويكأن الربيع قد أغرقه.

كان ذلك قبل أربع سنوات من الآن.. حين كان ما يزال طالبًا جامعيًا في عامه الثاني..

كان قد مر صدفة على مدرسة شقيقته منة في طريق عودته من جامعته فقرر اصطحابها، ولم يعلم أنه سيدفع روحه ضريبة لذلك.

اتصل بهاتفها ليعلمها أنه بانتظارها عند مدخل المدرسة، وبعد قليل سمعها تقول:

- أهو شفته.

رفع عينيه حين أتاه صوت شقيقته فرآها برفقتها.. لم يكن يظهر منها سوى عينيها.. زيتونيتين براقتين، تلألتا في ضوء الشمس كما الزُّمُرد النفيس، لتخطفا روحه إلى جنة خضراء، صافية السماء، منعش نسيمها كما النعناع البري الفريد، والربيع فصلها الوحيد.

خفق قلبه كطبولٍ تأذن بالحرب، ظل محدقًا بها، عاجزًا عن غض بصره رغم أنها وجهت بصرها نحو الأرض بالفعل منذ دهر واستأذنت أخته وغادرت.

كلا، هو لم يقع في حب عينيها، بل فُتِن بهما، تم أسره من قِبَلهما، وسُجنت روحه داخلهما.

لم يولي الأمر اهتمامًا في البداية، لكن شيئًا فشيئًا وجد في اصطحاب أخته من مدرستها هواية له، بل حياة بأكملها، أمله الوحيد فيها اختلاس ولو نظرة واحدة أخرى إلى تلك الجنة، لكنها ومذ انتبهت له حتى صارت تخفيها عنه بإنزالها نقابها ليغطي عينيها، ولم تعد ترافق شقيقته بعد انتهاء الدوام.

أدرك أن تلك الجنة صعبة المنال، وأنها لن تفتح أبوابها إلا لمن يستحقها؛ فقرر الابتعاد والتركيز على نفسه ليكون أهلًا لها.. لكن ربيع عينيها استمر في دعوته، إغوائه ليسبح في ذلك المحيط الزيتوني الشاسع، فلم تفارق صورة مقلتيها قلبه مهما حاول طمسها ورميها بعيدًا.. لم يُعنه على تجنبها إلا إصراره على ألَّا يُشوِّه تلك الجنة، ألَّا يسلب نقاءها قبل أن يحق له السكن بها.

جاهد نفسه لعامين كاملين غيرت فيهما تلك الفتاة كثيرًا في حياته وحياة أسرته، كانت خجول هادئة، لكنها لا تستحي من الحق، وبلسان عذب ظلت تنصح أخته وتعلمها عن دينها، وأخته تعود إلى البيت فتنقل إليه ما تعلمت قولًا وعملًا؛ فعلَّقت قلبه بها دون أن تدري وشددت الأسر عليه..

صار مواظبًا على صلاته، على ورده، تعلم عن دينه.. بداية كان فقط ليرقى إلى مستواها فيستحقها، لكن غايته صارت إرضاء ربه ليرضيه بها.

وردة وقطمها جحشحيث تعيش القصص. اكتشف الآن