9 || منزلنا الرَّحب.

36 6 1
                                    

ترجاهم ألا يتركوه هنا، تشبث بأقدامهم وصرخ بصوته المبحوح خائفًا من هذا المكان البشع، ولم يفده هذا في شيء، أدخلوه مرغمًا ثم ابتعدوا عنه مشمئزين قلقين وانصرفوا.

جلس مُكَوِّرًا جسده النحيل عند الباب الموصد، ينظر خائفًا إلى ذلك العابس الذي جعلت شفتاه العريضتان وحاجباه الغليظان عبوسه أكثر قسوةً ورعبًا، بينما هو في المقابل يرتسم في عينيه الدامعتين وثغره المقوس الخوف والرهبة. كان وكأنه ينتظر هجومه في أي لحظة، لكنه لم يفعل، بل ظل يرمقه بكرهٍ وهو على ذات جلسته التي وجده مراد بها. أماء برأسه للأمام ساخرًا وقال بصوته الغليظ:

- «يا لسخرية! سيقتلونني بطفل؟».

لم يفهم، وزاد جزعًا من نبرة صوته المجلجلة، فسحب أطرافه إليه بقوة أكبر، وطفق يتتبعه بمقلتيه الراجفتين وهو يتجه نحوه، فأخذت شهقاته تنفلت منه، وشرع جسده بالتوهج، وقبل أن يشتعل كان قد خرج هذا الرجل المخيف من المنزل تاركًا مراد وحيدًا.

نظر مراد عبر النافذة خلسةً يبحث عن ذلك الشاب الغامض، وجده في العراء ينتفض ظهره كل برهة، ففهم من ذلك أنه يبكي بصمت. لماذا يبكي رجل يبدو أنه قويٌ جدًا؟ لو كان مراد كبيرًا وقويًا مثله لما كان ليخاف من أحد، أو يبكي بسبب أحد، كان سيضرب كل أولئك الكبار الذين عذبوه.

أخذ يتأمله لبعض الوقت ثم تجاوزه ناظرًا للبقعة الجرداء، ساحةٌ شاسعة من لا شيء، سوى ترابٍ خشن وبقايا جذوعٍ وأوراق، ومن بعيد يلمح سورًا ضخمًا يمتد إلى كلا الجانبين، هو الآن في سجنٍ مختلف عن سجنه الأول، في سجنٍ كبير.

ترك النافذة وشرح يتأمل بيته الجديد، النوافذ المكسرة، والجدران المتشققة القديمة، والأثاث الخشبي المبعثر المحطم، والثلاجة المتسخة ذات الصوت الرتيب، على يمينه بابٌ يفتح إلى حمامٍ ضيق، وأمامه موقد صغير بقرب مغسلة صغيرة، وهذا هو كل شيء هنا.

•••

كشفت الأيام لمراد أن هذا الشاب الأسود الحزين، والذي عرف فيما بعد أن اسمه بانكول، ليس بذلك السوء كما كان يظن. لم يكن بانكول جيدًا وحسب، بل حنونًا عطوفًا أيضًا، يرعى الفتى الصغير ويرأف به وهو يعلم جيدًا أنه سيُقتل من خلاله، وإن كانت طريقة إعدامه به ما تزال غامضة. لطالما كان بانكول رحيمًا رقيق القلب، لذا لم يحتمل جزع الفتى الصغير وخوفه، فهم فورًا أنه ضحيةٌ مثله، ضحيتان قد فُرضتا على بعضهما بعضًا في هذا المكان السيء، ولكنهما انسجما تمامًا وكأنهما اختارا العيش معًا بإرادة حرة.

عرف بانكول قدرة مراد ذات ليلة حينما كانا مستلقيان فوق التراب يتأملان نجوم الليل، والفتى الصغير يثرثر بعفوية، قال له الكثير عن حياته في غرفة التجارب المؤذية تلك، وأنهم قرروا تركه أخيرًا ليعيش مع عائلته الجديدة والتي ظنها عائلةً تتكون من أمٍ وأبٍ وأخوه، لم يكن ليتصور أن عائلته ستكون مكونةً منه وحسب، قال له بانكول بعد أن أصغى لكلامه كله دون مقاطعة:

مـورا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن