1 || سَعير.

283 50 30
                                    

الجماهير الغفيرة تصفق تحت حلقات الضوء الملونة مع كثيرٍ من الإعجاب والدهشة، تُتابع عرضًا يتلوه عرضًا دون أن تمل أو تتعب، فما خلت تلك العروض من الإبداع والدقة، ابتداءً من فقرة الفيل الوردي الرشيق الذي يقف على قدمٍ واحدة حاملًا مدربته العجوز بخرطومه الممشوق، وانتهاءً بالرقص البهلواني المغمور باللمسات والحركات اللينة العسيرة. كلها عروض خلابة، ساحرة، كما لو كانت قطعة من الخيال على حلبة دائرية في السيرك.

على الحلبة ذاتها، اُختير كالمعتاد أن يكون هو صاحب العرض النهائي، وليس هذا محض اختيارٍ عشوائي، فعرضه الملتهب كان دومًا هو المقصد لمعظم زوار السيرك، يشتعلون حماسًا حين يبدأ، كما يشتعل هو بحرفية. وها هو يشرع بالدوران بخفة، ثانيًا ذراعه اليسرى خلف ظهره، مدورًا سوطه الطويل بيده الأخرى، ثم يثبت. يتحرك خطوةً، فخطوة، ملوحًا بسوطه أمام شمسين حارقتين لوحشٍ موشوم، لا هو سيقبل بالهزيمة، ولا الأسد الصارِم سيسمح له بهز كبريائه، وخارج هذه الحلبة المحصورة بالقفص الزجاجي العازل، تتلهف الأبصار لقتالٍ حامٍ بين رجلٍ وليثه.

•••

- «لا بأس.. لا بأس، تحمل أيها القوي، أنا هنا بجانبك.. كل هذا سينتهي، أعدك».

تمتم بها لليثه الملقى داخل عربته المسيجة، وهو يربت على بطنه الذي يصعد ويهبط بسرعة، يحاول تهدئة أنفاسه المضطربة، فهو متعب، ويتألم بشدة، كان قبل قليلٍ هائجًا يقاتل نفسه بعد أن انتهى من قتال شريكه الذي حاول رشَّه بالماء، يرمي بجسده المصبوغ بالبقع السوداء على الأرض مرارًا ويتمايل بعنف فوق التراب، ثم ينهض ويلتف حول نفسه لاهثًا يزأر وكأنما يستنجد بشيءٍ ما يخفف الألم الساري في جسده، والفتى الذي لا ينفك يرافقه، مضطرٌ لرؤية هذا عند كل مرةٍ ينهيان فيها عرضهما، بعينين ذابلتين لا حول لهما ولا قوة.

حين هدأ ليثه واستطاع أن يأكل طعامه، تركه ملقىً داخل العربة وعاد حيث يكون الجميع بعد انتهاء العروض، في غرفة التجهيزات الخانقة، دخلها مرحبًا بصوتٍ منخفض، مع ذلك لاحظ دخوله جميع الموجودين. أخذ يعبر الطريق نحوهم مارًا بين الأغراض الكثيرة هنا وهناك وهو ينظر للأسفل حريصًا على خطواته.

- «انظروا من جاء أخيرًا».

- «مورا.. مورا، أتيت، كنت مذهلًا اليوم!».

هجمت عليه إحدى الفتيات تطوق عنقه بذراعيها فورًا بعد انطلاق بعض الهتافات، كانت واحدة من الفتيات اللاتي يقدمن عرضًا راقصًا بأزياء مزركشة لافتة، نيلية اللون مزينة تكشف عن ساقهن وشيءٍ من بطنهن، يرقصن برشاقةٍ وانسجامٍ دقيقٍ كأنهن جسدٌ واحد، بحركاتٍ لا ترى إلا في هذا السيرك العجيب. أزال عن عنقه الطويل ذراعيها النيلية ببطء وهو ينظر إلى عينيها اللامعتين، وقال لها بهدوء يتحاشى إشعارها بانزعاجه:

مـورا حيث تعيش القصص. اكتشف الآن