دخلت هيدرا قصر فرانسيس تسير واثقةً إلى مكتبه، وخلال سيرها صادفت الفتى الأشقر ذي الملامح الناعمة المريحة للتأمل، كان يرمقها بحنق، وهي نظرته التي لم تفارقه مذ توفت والدته. قد توفيت قبل ثلاثة أشهر بسبب سقوط مزهرية ثقيلة موضوعة على الرف العلوي من مكتبة كتب مهترئة قديمة، على رأسها، وهذه المزهرية سقطت لأن المرأة المسكينة اصطدمت بالمكتبة بعد أن أصابها الدوار. وهي تعرف كما هو يعرف، أن هذا ليس هو السبب.
لم يكن وجه هذه المرأة غريبًا على كادن، قد رآها قبل الآن، ولكنه لا يذكر من تكون، أهي واحدةٌ من صديقات باتريشا؟ أم هي إحدى موظفات فرانسيس في السفارة؟ لا يهم.. وإن كان الظاهر من السواد الذي يغطيها أنها قد جاءت للتعزية. لم يعطها كادن مجالًا لمحادثته، التف عائدًا لغرفته وكأن ظهورها المفاجئ قد قطع خط سيره. دخلت على فرانسيس تقول له:
- «ذلك الفتى هو كادن؟».
وضع فرانسيس لفافة التبغ على المنفضة ونفخ الدخان من صدره وهو يقول دون أن يلتفت إليها:
- «نعم هو كادن، بما أن لا فتى ها هنا غيره».
- «كبر وصار وسيمًا للغاية، لا شك أنك محتاجٌ لمن يساعدك في رعايته».
نظر لها وقال يبتسم بخبث:
- «وأنت من سيفعل هذا؟».
- «لم لا؟ ألست امرأة أيضًا؟».
- «انصرفي يا هيدرا إذا كان سبب قدومك هو مضايقتي».
- «أصبح خلقك ضيقًا يا عزيزي، جئت لتعزيتك لا أكثر، أو لتهنئتك.. لا أعلم».
رمت كلماتها وهي تجلس على الأريكة بلا دعوة، تضع قدمًا فوق أخرى وتتلفت يمنةً ويسرى تعاين أثاث الغرفة التي تعرفها جيدًا، رمقها فرانسيس بحنقٍ شديد، وعادت له الرغبة ليعيد الكرة على رأسها، يعلم تمامًا ما تريده هذه المرأة التي لا تختلف عن بائعات الهوى إلا أنها هي من تختار زبائنها متى ما شاءت، ستقترح عليه كما اقترحت على أحد أصدقائه مرةً، أن يتزوجها، تريد هذه اللعينة أن تكسب موضعًا اجتماعيًا مرموقًا، وتظن أن تلك الليالي الممتعة التي قال لهتا فيها: إنه لم يشعر في حياته بمثلها. ستجعله يقبل بها زوجة تحمل اسمه.
لكنها استطاعت أن تجعله يقبل مرغمًا، وقد صار لها ما تريد، وصارت هيدرا تحمل اسمه وتسير رفقته زوجةً له أمام الناس، وكل ذلك كان لها بعد أن استطاعت كسب قلب كادن المكسور، استطاعت بأنوثتها، وأمومتها، وعبر بضعة أسابيع أن تجعل هذا الفتى الحزين يتعلق بها ويراها الأم الجديدة التي لا بديل لأمه الأولى أنسب منها.
لم يكن كادن ساذجًا، ولكنه كان مفطورًا، مدمرًا، يزداد مع الوقت شحوبًا وهزلًا، وتلك الصدمة الكبيرة التي اعترته عند رحيل باتريشا، وما كان يكتمه في قلبه قبل فاجعة موتها، وخوفه المتزايد من إجرام فرانسيس به، جعلته مدمر الأعصاب، سريع الإغماء، ومصابًا بالذعر معظم الوقت، وأقرب لروح جثةٍ تنتفض انتفاضة الموت ولا تموت، وهذا ما أدى به لأن يصير وهو ابن أربعة عشر عامًا مضطرًا للالتزام بجرعات دواء مهدئ من الصدمات النفسية والقلق. وفي هذه الفترة القاسية التي فقد فيها شغفه الكامل نحو أي شيء، انقطع عن الذهاب إلى بانكول ومراد مدةً تكاد تقترب إلى خمسة أشهر، بل إنه ما كان يخرج من غرفته إلا في مراتٍ قليلة، يقف فيها في ردهة البيت ساهمًا لا يقصد شيئًا ثم يعود إليها أكثر كسرًا ووحدة.
أنت تقرأ
مـورا
Misteri / Thrillerمن الصعب جدًا محاورة من في قلبه جرحٌ غائر، تصير كل الكلمات حينها سهامًا تفتق جرحه، لذا اختار كادن الصمت على أن يوضح له ما يقصده فعلًا، فغاية ما يريده كادن هو أن يذكر صديقه بطبيعته، بلعنته، ليفهم مدى اختلافه، فلن يكون سهلًا عليه أن يعلم أن أحد السببي...