"في رحلة الحياة، تتغير الأشياء وتتبدل المفاهيم، ولكن هناك حقيقة ثابتة واحدة في عالم جوري... لا شيء يبقى كما هو."
°° °° °° °° °° °° °° °° °° °° °° °° °° °°
دخلت أشعة الشمس اللطيفة ببطء لتتسلل إلى غرفتي، لتنعكس بلطف على عيناي المغمورتين في عمق النوم. نسيمٌ خفيفٌ من الهواء دغدغ أذنيَّ برقة، كانت لحظة استيقاظ مليئة بالسكينة والهدوء.
استيقظتُ وتثائبتُ براحة، ثم قفزتُ بخفة من فوق السرير، وتوجهتُ نحو النافذة. بدأتُ بإزالة الستائر الحريرية المطرزة بأناملي الرشيقة، وبفتح النافذة الكبيرة، أخذتُ نفسًا عميقًا لأشمَّ رائحة عبق الأزهار الطيبة، وكأنها تخترق وجداني بلطف. شرفتي تطل على حديقة كبيرة مزروعة بالأزهار التي نمت بألوانها الزاهية، وأشجار تغطيها من كل جانب.
ولكن كانت هناك شجرة محببة إلى قلبي، شجرة الكرز التي كنتُ دائمًا أجلسُ تحت أغصانها وأقرأ رواياتي المفضلة. تحمل لي ذكريات جميلة ولحظات هدوء تختبئ في ظلالها، قضيتُ طفولتي مع شقيقي في تلك الحديقة الساحرة، حيث كنا نستكشف أرجائها ونستمتع بألعابنا تحت ظلال الأشجار الخضراء. تلك الأوقات كانت لي مصدرًا للذكريات السعيدة ولحظات مليئة بالمغامرات، حيث كانت ضحكاتنا تتناغم مع غناء الطيور وبريق النسيم الذي يلامس وجوهنا البريئة. تعززت روابط الأخوة والمحبة تحت أضواء الشمس الدافئة، في تلك الحديقة التي شهدت كل لحظات فرحنا وتفاصيل طفولتنا.
عدت لأجلس فوق حافة السرير أمام المرآة، تأملت نفسي بانسجام. مررت بأصابعي الرشيقة على خدودي الموردة، حيث ينثر النمش جماله بريقًا فريدًا، ثم انتقلت إلى خصلات شعري الطويل والمجعد، الذي يتدلى بلون برتقالي ساحر. عيوني الخضراء كانت تلتقط كل تفاصيل وجهي، ورموشي الطويلة تعطي لنظرتي لمسة جمالية خاصة، ومع ذلك، لم أستطع أن أرى نفسي بالجمال الذي كان الآخرون يرونه فيَّ. فكلما التقطت نظرةً إلى المرآة، كانت الصورة المنعكسة ليست الصورة التي تصفها الكلمات الجميلة التي يخطها الآخرون. كانت هذه العبارات التي يقولها الآخرون،" أوه، يالا سحر جمالك يا جوري!" لا تتناسب مع الصورة التي أراها لنفسي.
ملت بظهري على حافة السرير، أبقيت عينيَّ تحدقان في سقف الغرفة المنقوش بنقوشٍ مموجة والمطلية بماء الذهب. كانت النقوش تلمع ببريقٍ مذهلٍ، وقوامها يتلألأ بوجود أشعة الشمس المتسللة، مما أضفى على الغرفة جوًا من السحر والجمال، لم يكن ذلك اللمعان إلا مرآة للنور الذي كان يملأ الغرفة، مما جعلها تبدو كأنها لوحة فنية تجسد السحر والأناقة، أغمضت عيني بإسترخاء للحظات قصيرة ثم فتحتهما لأجد نفسي مذهولة واسعة العينين، لقد اختفت تمامًا تلك النقوش الساحرة التي كانت تزين السقف، رفعت رأسي بسرعة وتساءلت بدهشة: "هل حانت نهاية الحلم؟"
لحظة الإدراك أننا لم نعد نعيش تلك الحياة الفاخرة، بعد أن كنا من النبلاء وكان الجميع يهابنا، أصبحنا الآن نكاد نرفع رؤوسنا أمام الناس، تغير كل شيء، لقد تم التلاعب بوالدي ، فوراء كل رجل نبيل يكمن عدو ينتظر سقوطه، كانت هذه اللحظة صدمة مؤلمة للتواضع وفقدان كل ما كان يمثل العزَّ والمجد في حياتنا، فقدنا قصرنا العتيق، وحديقتنا الواسعة، وشجرة الكرز المحببة إلى قلبي. ولكن الشيء الذي إفتقده بشدة هو مكتبة القصر العتيقة المليئة بالكتب، حيث كنت أقضي فيها معظم وقتي، أدرك تمامًا قيمة تلك الأيام الثمينة المليئة بالبهجة والسرور، وكم تغير كل شيء الآن.
نهضت بارتباك من فوق السرير، وأمسكت بالفستان الذي أهداني إياه أخي، الشيء الوحيد الذي لم استطع تركه في القصر كان الفستان أبيضاً ومزيناً ببتلات الزهور البرتقالية، التي كانت تتناغم تمامًا مع لون شعري، ارتديت الفستان الذي كان يلائم خصري بشكل مثالي، وسرحتُ شعري المجعد للوراء وربطت جوانبه بشريطٍ أبيض، كانت بعض أشعة الشمس المتسللة تتسلل من شق النافذة، وتنعكس على كتفي النحيف، مما كان يظهرهما بشكل شبه عاري و يلقي بلمعة ساحرة على الفستان وعلى كامل إطلالتي، على الرغم من خسارتنا لكل ثروتنا، إلا أنني لم أفقد أبدًا اهتمامي بنفسي، حافظت دائمًا على الاهتمام بنفسي وبظهوري فالرعاية الشخصية هي شيء يمكن أن لا يفقده الإنسان مهما كانت التحديات التي يواجهها في الحياة.
بعد إنتهائي، كنت متجهة نحو المطبخ لأجد والدتي تجلس على حافة النافذة الصغيرة، وكانت تحدق بتلك المناظر من الخارج بصفاءٍ وتأمل إقتربت منها وقبلت يدها، فضغطت على يديَّ وقالت بصوت هادئ:
_ أوه يا جوري، انظري إلى هذه الأراضي الخضراء، فهي تلبس ثوبًا من الزهور تسحر الناظر إليها وتريح القلب!
أجبتها بتأمُّل:
_صحيح يا أمَّاه، رغم أننا اصبحنا نعيش في حي بسيط، إلا أن منطقته معروفة بطبيعتها الساحرة في فصل الربيع!
هزّت رأسها موافقة على رأيي ثم تنهّدت بحزن وقالت:
_والدك... مر وقتٌ طويل دون ان يراسلنا، ولم يرسل أيَّ مال أيضًا، بدأت أشعر بالقلق
التقت نظراتنا، وتأمَّلتُ عينيها الخضراء التي بدت متعبة وتطلب المواساة، أجبتها على الفور:
_لا داعي للقلق يا أماه... ربما تمنعه ضروفه
صمتت لبرهة، ثم عادت لتنظر إلى الخارج وتحدثت بنبرة صوت مختلفة:
_أو... ربما استبدلنا بعائلة أفضل
تأملت وجهها بذهول وقلت:
_ليست من طباع والدي!!
بقيت صامتة ولم تلتفت إليَّ، على الرغم مما قلته لها، إلا أن كلماتي كانت مجرد احتمال وارد، هنا بالضبط بدأ ذلك الشعور بالمسؤولية يساورني، أرغب في الخروج والبحث عن عمل، فأنا قلقة على صحة أمي وكذلك أخي، فمنذ صغره كان جسده ضعيفًا ويتعرض للمرض بسرعة، أصبحت أملهم الوحيدة الآن، بعد انقطاع أخبار والدي الذي غادر البلاد للعمل مع أحد معارفه، وكان يرسل لنا كل شهر رسالة تحمل أخباره مرفقة بالمال وهكذا، وسط هذا الغموض الذي يحيط بوالدي وانقطاع الأخبار، تجتاحني إرادة قوية لإيجاد عمل، لأكون عونًا ودعمًا لعائلتي، لا يمكنني التوقف أو الاستسلام، عليّ أن أنطلق لأكون ركيزة قوية لهم، هذا هو عزمي وقراري الثابت.تـــــابــــــــــع.. ♕
أنت تقرأ
تٌحٍــتٌ...آلُمظًـََلُةّ ✨
Romansaالعصر الفيكتوري: في زمن البريق والتحولات، تسلُب الأحداث جوري، الفتاة الفاتنة من عالم النبلاء، إلى أرض الفقد والتغيير. بين طيات الضياع، تفتح قلبها لعالم مختلف، حيث يتقاطع الألم بالأمل ويتجلى القوة من خلال أوجاع الفقد. هنا، في زمن الأزمان الضائعة والف...