المشهد العاشر

5.2K 289 4
                                    


لم يشعر أحد بغيابها وسط الزحام والصخب السائد، خاصة حينما تسللت من باب الخدم الخلفي للقصر لتبحث عن ذلك السائق الأسير. رفعت "ياقوت" طرف عباءتها الذهبية لئلا تتعرقل فيها أثناء هرولتها المتعجلة، لمحت هؤلاء الرجال على مسافة عدة أمتار، وقبل أن تفكر في الاقتراب منهم وإظهار نفسها، أمسكت بهاتفها المحمول، وقامت بتسجيل ما يقومون به باستخدامه، لتوثقه كدليل حي وملموس على جريمتهم النكراء. خفضت من الهاتف ثم تقدمت ناحيتهم وهي تصيح في "مطاوع" الذي كان يهدد بذراعه الممسك بسلاحٍ ناري في الهواء:

-بتعمل إيه عندك؟

تفاجأ بوجودها، وكذلك الخَفر، فصاح مستنكرًا:

-مين هناك؟

استطاعت "ياقوت" أن ترى ذلك الأسير، لم يكن السائق كما ظنت، بل آخر وجهه مكدوم، ومتورم، تغلبت على تأثير المفاجأة، وهتفت في صوتٍ آمر، رغم ارتعاش نبرتها:

-سيبه!

وكأنها أتت كالنجدة من السماء، حاول ذلك الأسير الفرار؛ لكن أسقطه "مطاوع" أرضًا، وضرب جبينه بمؤخرة سلاحه، قبل أن يوبخها في حدةٍ:

-إنتي مين يا حُرمة؟

شهقت فزعة من عنفه، وهددته بتوترٍ مبرر:

-أنا صورت اللي إنت بتعمله ده، ولو قربت منه هبلغ عنك البوليس!

اربد وجهه بالضيق الشديد، وهدر بها منفعلًا، وبأسلوب مغلف بالإهانة:

-اتجننت الحُرمة دي ولا إيه؟ ملكيش صالح باللي بنعمله، انجري خشي جوا مع الحريم!

لم تتراجع "ياقوت" عن دفاعها، واستمرت تقول:

-عاوزني أشوفك بتموته وأسكت؟

ثم أعطت الجميع نظرات مستهجنة مليئة باللوم وهي تواصل الكلام:

-احنا في بلد فيها قانون، وغصب عنك هتلتزم بيه وتحترمه.

استفزه ردها، فارتفع صوته أكثر وهو يصوب مسدسه ناحيتها:

-إهنه احنا القانون!

ارتاعت من تهديده الصريح، وصرخت فزعًا عندما اختطف هاتفها المحمول عنوة من يدها وهو يخبرها:

-وهاتي البتاع ده.

في تلك الأثناء جاء "صفوان" بعدما تم إبلاغه بإلقاء القبض على أحدهم، ممن حاولوا استغلال انشغال الجميع بليلة الحناء، وتسلل إلى إحدى الحظائر، لسرقة بعض الماشية. تفاجأ بوجود هذه الحسناء بين الرجال، كانت كشعلة من اللهب بثوبها الذهبي البراق، فتخطف الأنظار، وتسلب الألباب، وما زاد من وطأة تأثير الصدمة عليه اشتباكها اللفظي مع "مطاوع"، والذي تحول في سرعة البرق إلى يدوي حينما انتزع منها هاتفها، أسرع في خطاه تجاهها، ونادى بصوته الجهوري الصارم:

-"مطــــاوع"! إيه اللي بيحصل إهنه؟

تجاوزها ليصبح في مواجهة ابن عمه، وشكل بجسده حاجزًا ليحول دون مساسه بها، ليخبره الأخير في شيءٍ من الشكوى المتذمرة:

-بنت الأغراب جاية تقولنا نعمل إيه ومانعملش إيه؟

تضرج وجه "ياقوت" بحمرة الضيق، بينما اشتعلت نظرات "صفوان" بوضوح، ليزداد الموقف توترًا بإضافة ابن عمه:

-ما عاد علينا إلا آ...

طريقته في إلقاء جملته أوحت بإهانة فجة، لهذا لم يمنحه الفرصة لإكمال جملته، وأنذره في نبرة صارمة للغاية وهو ينتصب في وقفته السامقة:

-ولا كلمة!!!

للغرابة راحت "ياقوت" تهدد رغم الخوف المنتشر في أوصالها:

-أنا مش هسكت عن أذية حد، حتى لو كان غلط!

نظر لها "مطاوع" باستحقارٍ قبل أن يبرر تصرفه العدائي:

-يا كبير ده حرامي، مسكوه الغفر في الزريبة وهو بيسرق، ما أني شيعت الغفير يقولك.

رد عليه "صفوان" في حزمٍ:

-والمأمور معزوم عندنا، نقدر نسلمه ليه، وبعدين دي ليلة أختي، والحكومة كلها حدانا، عاوز تخلي فيها مشاكل؟ دي وصيتي ليك يا ولد عمي؟

ثم أمره وهو يمد يده ناحيته:

-هات اللي خدته مِنها.

على مضضٍ أعطاه هاتفها المحمول، ليقدمه "صفوان" لها وهو يقدم اعتذارًا لبقًا، من موضعها تطلعت "ياقوت" إليه في دهشةٍ، لم تتخيل أنه بهذه العقلية المتفهمة، المراعية، الآن استوعب مدى تبجيل وتوقير رفيقتها لشقيقها، كانت تظن أنها تفعل ذلك كنوعٍ من المبالغة، قطعت تواصلها البصري عنه عندما احتج عليه ذلك الفظ في غيظٍ:

-ومن مِتى بندخل الحكومة في اللي يخصنا؟

وقبل أن يرد عليه "صفوان" تابع في وقاحة مستنكرة:

-ولا عشان الحُرمة دي نعرت نعرتين نخافُ ونكش؟!

أحست "ياقوت" بالإهانة الشديدة، خاصة أمامه، فأدمعت عيناها في الحال، لم يأتِ ببالها أن يقوم أحدهم بالإساءة إليها بهذا الشكل الوقح، وهي التي تبذل قصارى جهدها لتراعي مشاعر وعواطف الآخرين، كان من المحرج لها أن تُهان على مرأى ومسمع الغرباء، فانسحبت مغادرة وهي تكبت عبراتها، بينما انتفض "صفوان" يزأر في وجهه بوحشيةٍ:

-لآخر مرة بحذرك تجيب سيرتها! وإلا هيطولك زعلي، وإنت خابرني، مابفرقش بين ولد عمي والغريب!

لحظتها تخلى "مطاوع" عن محاولة معاداته، ولو ظاهريًا، لتأتي بعدها أوامره بتسليم ذلك اللص إلى أفراد الأمن، ثم التفت باحثًا عن ضيفته صاحبة الطلة البهية؛ لكنه لم يجدها في الأرجاء، اشرأب بعنقه، وفتش عنها هنا وهناك وهو يتساءل متحيرًا:

-راحت فين دي؟!


يتبع >>>>>

بين عشية وضحاها - قصة قصيرة كاملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن