.
.
.
.ضحك هو الآخر، قلت بين أنفاسي
- رأيت الموت الذي فتك بها !
خبت الضحكات، استدرك كلامي، وشتمت نفسي، كيف لي أن أقول مثل هذا الكلام؟ هل شبهت جثة طفل، بحمار نافق؟! تألمت أيما ألم، وقبضت يدي بقوة، وددت لو لكمت وجهي
- لست الموت
نظرت له
- لم اقتلها
-طفلة ؟
أومأ، والحسرة في عينيه، قال
- ليس أنا ... كان أبي
صمت، نظر إلي، ثم إلى السماء الصافية، كانت بعيدة جداً، نقية تزهو، لم تمسها يد البشر، لا احد لوثها... نحن آفة تمشي على الارض، كان الأجدر أن ينقرض جنسنا دونا عن الديناصورات، لكانت الأرض في أمان، لما صارت بمثل هذه الدناءة ...
مر في عقلي شريط ذكرى بعيدة، إلى صيف أول لقاء معه، إلى الوقت الذي رأيت فيه عدن لأول مرة ... صيف حار، صوت الحشرات يسمع من على بعد شارع، تلك القرية الشمالية، التي لم تكن حارة أبدا، ذلك النهار، اتقدت، وكأنها تطبخ لنا ذلك اللقاء، منذ اللحظة الأولى، إلى أن يموت كلانا، كانت تعد لنا طبخة اقدارنا، وكم كنا جوعى، نلتهم حتى الأكل الفاسد ...
كنت طفلاً لم أتجاوز الحادية عشر، وهو كان في الثالثة عشر من عمره، يكبرني عامين، ما أزال حبه.أول مرة رأيته فيها، أكاد أن المح على الواقع، ذلك القميص الأزرق الباهت، والبنطال الرمادي القصير، الذي أظهر بياض ركبتيه، كان نقياً، فكرت وقتها أنه يشبه العنكبوت بأطرافه الطويلة، وملامحه الحالكة، وصفرته وجهه، مثل ورقة قديمة، مرمية على جانب الطريق، وقفنا قبالة بعضنا، كان جارنا الجديد الذي حط رحله في قريتنا، الوحيد لأسرته، على عكسي أنا، كنت الأصغر بين أربعة أولاد وأخت واحدة أكبر، سرعان ما انتقلت بعد زواجها، لأبقى وحدي مع اخوتي الأكبر ووالدي المشغول دوماً وأمي التي لم تهتم لأمري، لقد كان عوض الله لي، عوضه كإنسان، دخل حياتي بعد سجدة طويلة، سجدة محملة بالشكوى . ما تزال ابتسامته كما هي، لم يتغير شيء فيها، وما أزال أحبها، لازالت مستمراً حتى الآن في حبه .
اعادني من وهج الماضي صوت أنفاسه، كان يبكي، يضع يديه على وجهه، ويبكي، ترددت هل اربت على كتفه أم أبقى ثابتاً ؟ وما الدليل على أن والده هو القاتل؟ بقينا هكذا، يبكي، واسمع صوت بكائه، تصفعني نفسي الأصغر، تتحطم، ولا أجيد بعد ذلك ترميمها، لقد علمت منذ قديم الزمان، أنني أفشل خلق ربي في مواساة من يحبون، لم اواسي ابي المحتضر بين يدي، لم اواسي امي التي رأيتها ممددة في المطبخ تلفظ أنفاسها الأخيرة، لم أكن اواسي أحدا إلا الأموات، إلا تلك الطفلة، عينها الدامعة، هي فقط، والآن ها هو الأكبر، الأشد تماسكا، الذي بكيت على كتفه وأنا طفل، يبكي دون كتف، دوني، يمسك رأسه ويبتعد عني، تهرب دموعه مني، انزلت رأسي إلى الأرض، وخوفي منه تلاشى، نظرت إلى الحقيبة اليدوية، ضربت جبهتي بقوة من أفكاري، رباه ما أسخف هذا العبد! شددت شعري لعل هذا الخجل يختفي، فإذا بعدن يبعد أصابعي عن رأسي، محمر العينين، خائف الملامح، أبعدت يدي عن شعري، انظر إلى كفه الكبيرة التي احتوت يدي، لم يتغير شيء
أنت تقرأ
ميَّال الشَمس
Teen Fictionأتأمل الأعوام التي مرت بين يدي، خلسة، وكأنها تهرب مني، من جلادها، من وباء، أحدق من زجاج النافذة إلى الطريق المعبد، والمباني المتطاولة، أفتش بعيني لعلي ألمح طيف الماضي المختبئ بين زوايا دنيانا هذه، وددت لو امسك به، أسأله عما فعلته، لماذا أضاع مني روح...