8

77 10 5
                                    


.
.
.
.

استيقظت مع صلاة الفجر، فتحت ابواب المنزل ونوافذه، أبعدت الأغطية البيضاء التي غطت الأثاث، وانتشر الغبار في الجو، كنت قد ربطت حول وجهي منديلا وبللته بالماء حتى لا ينفذ التراب منه، انظف المنزل من أثر السنة التي تركتها تسكن فيه، اطردها، امحو أثرها، وانشر في الجو رائحة البخور.
استغرق التنظيف النهار كله غسلت الأغطية ونشرتها على ستارة المنزل، انظر إلى الناس من الأعلى، يخرجون إلى أعمالهم، الباعة المتجولين، والحياة التي عادت بعد المغيب، البهجة التي شعرت بها لهذه الأجواء الدافئة، جعلتي أعرف سبب عودة ابي إلى منزله القديم، إلى دياره التي قتل فيها، إن في هذا المكان رائحة محببة، إن له حميمية قديمة، ونجوى عالقة في نجوم سمائه، ولن ألوم أبي على شيء، فأنا أيضاً أهرب إلى هذه الأرض، من كل بقاء العالم، هنا.

أخرجت ثيابي التي تركتها في الخزانة غسلتها ونشرتها على حبل الغسيل رفعت السجاد، نفضته من الغبار خارج المنزل، ولففته، ارتبه في إحدى الحجرات، فوق بعضه، واغطيه بقماشة بنية ... غسلت الأرض كلها، أتركها هكذا متجردة من الكساء، شغلت المراوح ومكيف الهواء، وارتميت في الصالة الخالية، على الأرضية الرخامية، وكأن الصيف في الخارج حلم طويل، وكأن الشتاء لما يغادرنا بعد، تنهدت مرتاحاً، انظر إلى السقف، إلى الثريا، وابتسمت.... لا مسرة أعظم من شعور العودة للديار بعد السفر .

شعرت بعد فترة من الراحة بالجوع، ذهبت إلى المطبخ، ليس في الثلاجة طعام، ولا في الرفوف طعام معلب، راجعت حساباتي، أرى أنني لو طلبت طعاماً فلن يبقى لي من نقود كافية أعود بها إلى العاصمة، لقد عدت دون تفكير أو احتياطات، إنني حتى لم آخذ هويتي معي ولا بطاقتي البنكية، لا شيء حرفياً

-سافرت فقط بروحي .

وفيما أنا ارثي غبائي، طرق الباب طرقا خفيفا، خرجت لارى من القادم ناديت من خلف الباب، استعلم هوية الطارق، جاء صوت مألوف، صوت حاد يثير الحنين

- أنا أم حمزة، أم حمزة! افتح الباب يا أبني الشمس تحرق رأسي!

فتحت الباب بسرعة، وكدت أن آخذها بالاحضان من فرط اشتياقي لها، لكن الواقع صفعني، أنها ليست خالتي أنها صديقة أمي فقط! اكتفيت أن ابتسمت لها، تطفح روحي مسرورة

- تفضلي خالتي، تفضلي!

دخلت وهي تتكا على عكازتها، تعرج في مشيتها قليلاً، عمرها قد تجاوز الستين، كانت شجرة معمرة، أما لهذا الحي كله، رأت الاطفال يكبرون، كانت ولادة أغلبهم على يديها، كانت الأمهات تدع أطفالهم يلعبون تحت أنظار هذه السيدة، تحرسهم، تحميهم وكأنهم جزء منها، فقدت ضناها في الحرب، ولم تبقى لها إلا صورهم، وكانت تحتفل في ذكرى استشهادهم، تفخر أنها قدمتهم فداءا لأرواح الناس . حين عدنا إلى هنا، كنا نبيت في منزلها أنا ويحيى وأمي، وأبي واخوتي الأكبر في منزلنا المجاور، كان يحتاج إلى ترميم، ليس فيه أثاث أو مستلزمات المعيشة، كانت تعاملنا بالحسنى، وما تزال هذه الطيبة حتى رغم كل البؤس، عالقة فيها .

ميَّال الشَمسحيث تعيش القصص. اكتشف الآن